ليست في الموت شماتة، لكنّ فيه عظة، وبخاصة موت الطغاة. وفي سيرة ومسيرة سلوبودان ميلوسوفيتش، ديكتاتور يوغسلافيا السابقة، ومجرم الحرب الصربي، الذي أثارت جرائمه العنصرية والمذابح، التي مارستها قواته الصربية ضد الأبرياء المسلمين وغيرهم في كل مدينة وقرية دنستها أقدامها، عظة وأي عظة، لكل طاغية، استهان بقيمة البشرية وبأرواح عشرات الآلاف من "مواطنيه"... ولماذا؟ لإشباع طموح وجشع للسلطة والقوة متلبساً زوراً وخداعاً بشارات القومية العنصرية "الكريهة" والنعرات الإثنية المتخلفة والتي هي في الأصل الوريث الشرعي للفاشية– النازية.
لقد صعد ميلوسوفيتش خلال دهاليز السلطة الشيوعية اليوغسلافية بدهاء ومكر متخفياً تحت قناع التيتوية (نسبة للمارشال جوزيف تيتو).
وكان ذلك القناع قناعاً زائفاً –كما أثبتت الأحداث اللاحقة, ودخل تاريخ بلاده كـ"بطل قومي"، يريد أن يستعيد ما أسماه الصرب "عظمة صربيا الكبرى". وخرج من سجل التاريخ الآن كمجرم عتيد وعنيد مشيعاً بسخط الملايين ومن بينهم بعض قومه، من أسر قتلاه، ومن ملايين البشر الذين رأوا المذابح والتصفيات الإثنية التي أقامها ضد مسلمي البوسنة وكوسوفو وكروات صربيا وغيرهم. خرج ويوغوسلافيا الجميلة –التي كانت في وقت ما نموذجاً للتقدم الذي صنعته وحدة الشعوب اليوغسلافية تحت قيادة زعيمها تيتو– قد ذهبت أدراج الرياح.
الخلافات الإثنية مزقت وحدة شعوبها, بل حتى "صربيا الكبرى" التي باسمها ارتكب ميلوسوفيتش المذابح والمجازر الفظيعة قد أنكرته في غالبيتها فلم يحظ حزبه (الحزب الاشتراكي الصربي) في الانتخابات الديمقراطية سوى بعشرة في المئة من أصوات الناخبين الصرب !!
وكانت نهايته الدرامية في سجن المحكمة الجنائية الدولية. وهو أول رئيس دولة سابق يقف أمامها متهماً بجرائم التصفية العرقية واغتيال الخصوم السياسيين ومن بينهم حتى "رئيسه" في الحزب الاشتراكي السابق... صحيح أن المحاكمة لم تنتهِ ولم يصدر ضده الحكم القضائي، لكن حكم البشرية التي روعتها جرائمه قد صدر قبل أن يقف متهماً أمام المحكمة. ففي نصر البشرية التقدمية والعدالة الشعبية, فإن الشيوعي الأسبق والاشتراكي السابق، قد ألحق اسمه بقائمة طويلة من "الزعماء" والحكام الطغاة, شملت أسماء مثل هتلر وموسوليني وفرانكو وبول بوت وغيرهم.
والعظة والعبرة في مسيرة ميلوسوفيتش, صعوده الدرامي وانحداره وسقوطه الأكثر درامية, تبقى هي العظة في مسيرة كل الطغاة الذين شهدهم التاريخ القريب. إن الطاغية –أي طاغية– وهو مدفوع بجنون السلطة والقوة سرعان ما يجد نفسه وقد تخلى تدريجياً عن تلك المبادئ والشعارات الجميلة البراقة التي تتوق إليها الجماهير–وأي جماهير– تلك التي على أكتافها صعد سلم السلطة واحتوى القوة. وأيضا سرعان ما يصور لنفسه أنه هو نفسه هذه الجماهير، وتتحول السلطة إلى سلطة مطلقة والقوة إلى قوة مطلقة هي ملك يمينه وشماله أيضاً!
وقديما قيل إن السلطة المطلقة مفسدة وأي مفسدة... إنها في نهاية الأمر قاتلة لصاحبها!