شهدت العقود الماضية زيادة مطردة في عدد حالات الأورام السرطانية، دون أن ينجح المجتمع الطبي حتى الآن في الوصول إلى تفسير مقنع لسبب هذه الزيادة. وتعتمد حالياً محاولات التفسير على مجموعة من النظريات، دون أن يقطع أي منها الشك باليقين، مثل النظرية القائلة بأن هذه الزيادة هي زيادة نسبية، ناتجة عن تطور أساليب التشخيص والارتقاء بمستويات الرعاية الصحية في بقاع العالم المختلفة، مما أدى بدوره إلى اكتشاف وتسجيل عدد أكبر من الحالات، مقارنة بالعقود والقرون الماضية التي لم يتوفر فيها نفس المستوى من التشخيص والرعاية. أي أن الأمراض السرطانية كانت موجودة دائما بنفس القدر بين أفراد الجنس البشري منذ قديم الأزل، وما تغير هو القدرة على اكتشافها وإدراجها ضمن البيانات الإحصائية. أما النظرية الثانية، فتلقي باللوم على النجاح الذي حققه الطب الحديث في العديد من المجالات، مما دفع بمتوسط العمر في الكثير من الدول إلى أرقام أعلى وأعلى. وبما أن التقدم في العمر، يعتبر أحد عوامل الخطر الرئيسية المصاحبة لزيادة الإصابة بالأمراض السرطانية، أدى نجاح الطب في زيادة متوسط العمر من خلال القضاء على الأمراض الوبائية والأمراض المعْدية، إلى حدوث زيادة في الأمراض السرطانية. النظرية الأخرى، والتي تلقى قبولا واسعا في الوسط العلمي، هي القائلة بأن الزيادة الحادثة في الأمراض السرطانية، مردها إلى زيادة التلوث البيئي الكيميائي الذي أصبح يعيش فيه حالياً إنسان العصر الحديث. وينتج هذا التلوث البيئي عن عدة مصادر مختلفة، مثل التلوث الناتج من عوادم السيارات، والتلوث الكيميائي بالمواد المسرطنة، والتدخين، والتلوث الغذائي بالمواد الكيماوية الحافظة أو بالمبيدات الحشرية والزراعية.
هذه التفسير تلقى مؤخرا دعما علميا، وخصوصا في الجزء المتعلق بالتلوث الغذائي بالمبيدات الحشرية، بعدما نشرت إحدى الدوريات العلمية المرموقة المتخصصة في الطب الغذائي والطبي البيئي (The Journal of Nutritional and Environmental Medicine)، نتائج دراسة رجحت وجود خطر على الأطفال والبالغين على حد سواء، من جراء التعرض للكيماويات الموجودة في المبيدات الحشرية. هذه الدراسة، التي قام بها فريق من علماء جامعة "ليفربول" ببريطانيا، اعتمدت على مراجعة وتحليل نتائج أكثر من 300 دراسة سابقة، عنيت جميعها بالعلاقة بين مادة كيميائية خاصة (organochlorines) موجودة في المبيدات الحشرية وفي بعض أنواع البلاستيك، ويمكنها أن تعبر إلى جسم الإنسان مع الهواء، أو مع شرب المياه، أو مع أكل اللحوم ومنتجات الألبان. ويعتقد العلماء أن هذه المادة تؤثر على مستويات الهرمونات في الجسم، مما يثير القلق حول علاقتها بالأورام المعروف ارتباطها بالهرمونات، مثل سرطان الثدي والبروستاتا والخصيتين. وهو ما يؤكد تقارير وإحصائيات الاتحاد الأوروبي السابقة، والتي تشير إلى وجود علاقة بين العديد من المبيدات الزراعية والحشرية شائعة الاستعمال حاليا في قطاع الزراعة داخل القارة الأوروبية، وبين الإخلال بمستويات الهرمونات. وتحقق المبيدات الزراعية تأثيراتها السلبية تلك، إما عن طريق منع الهرمونات من تأدية عملها وعندها يصاب الجسد بنقص مزمن، أو عن طريق إحداث تأثيرات مشابهة لتأثير الهرمونات الطبيعية وساعتها يصبح الجسد معرضاً لنوع من الإفراط الهرموني.
وبوجه عام تشكل المبيدات الحشرية نوعين من الأخطار، المباشر وغير المباشر. الخطر المباشر ينتج عن احتمال التسمم القاتل عند شربها بالخطأ من قبل الأطفال مثلا. أما الخطر غير المباشر، فينتج عن تأثيرها التراكمي عبر السنين. فرغم أن بعض الحكومات والدول تضع معايير خاصة لدرء الخطر التراكمي للمبيدات الحشرية، مثل المعيار المستخدم في بريطانيا ويعرف بالحد الأقصى للبقايا، والذي يعبر عن الحد المسموح به لوجود بقايا المبيدات الحشرية في المنتج الغذائي النهائي، إلا أن المسوح الميدانية أظهرت وجود أطعمة وأغذية مطروحة في الأسواق للاستهلاك الآدمي، تتخطي كمية المبيدات الحشرية فيها الحد المسموح به. هذا بالإضافة إلى أن تلك المعايير والحدود، لا تأخذ في الاعتبار الاختلاف الفسيولوجي واختلاف الوزن لدى الأطفال. فالمعروف طبياً أن الأطفال، وخصوصا الرضع منهم، يختلفون إلى حد ما في طبيعة العمليات الحيوية داخل أجسامهم، بالإضافة إلى اختلاف أوزانهم إلى حد كبير جدا عن البالغين. هذا الاختلاف بالتحديد، هو ما يجعل جرعة الأدوية والعقاقير للأطفال، مختلفة عن مثيلتها للبالغين بشكل كبير. ولكن للأسف، لا تأخذ الحدود الحكومية، مثل الحد الأقصى للبقايا سابق الذكر، مثل هذه الاختلافات بعين الاعتبار. وإذا ما أضفنا إلى كل هذا الشكوك التي تنتاب باحثي جامعة ليفربول، في إمكانية عبور بقايا المبيدات الحشرية من جسد الأم إلى جنينها، أو من لبنها إلى طفلها الرضيع، فسندرك مدى فداحة الخطر الذي يتعرض له هؤلاء، ومنذ الأيام –وربما الساعات الأولى- من حياتهم. ودرء مثل هذا الخطر ربما لا يتمثل في تحديد مستوى أقصى لب