كثيرا ما تم تقديم الحرب التي قادتها الولايات المتحدة على العراق في 2003 على أنها كانت تروم خلق توازن جديد للقوى في الشرق الأوسط. وحاليا ينظر إلى المواجهة مع طهران من زاوية الخطر الذي ستشكله إيران، في حال تمكنها من تطوير برنامج نووي، على توازن القوى في المنطقة. أما النزاع العربي-الإسرائيلي، فلطالما نوقش وعولج من منظور توازن القوى. فما الذي يقصده بالضبط الساسة والمعلقون والكتاب بعبارة "توازن القوى"، وخصوصا عندما يستعملونها في سياق الشرق الأوسط؟
الواقع أنه عندما يُقصد بالقوة القدرات العسكرية والاقتصادية والجيوستراتيجية، استعمل "توازن القوى" أحيانا ليعني ما يعنيه، أي التوازن الفعلي للقدرات والتوازن بين الخصوم والمتنافسين. وقد كان هذا، على سبيل المثال، المعنى الذي قصده "إي. جي. بي . تايلور" حين استعمل "توازن القوى" في كتابه "الكفاح من أجل التفوق في أوروبا 1918-1948"، حيث كتب تايلور يقول "لقد كان ثمة توازن أوروبي حقيقي للقوى خلال العقد الأول من التحالف الفرنسي-الروسي، وهو ما أدى إلى السلام، إلا أن التوازن سرعان ما اختل عندما ضعفت روسيا بسبب حربها مع اليابان".
هذا وقد استعمل "توازن القوى" أيضا للدلالة على استراتيجية تحالف تروم منع ظهور قوة مهيمنة، كحال الملكيات الأوروبية المحافظة في مواجهة نابليون الذي كان يشكل تهديدا لها. وفي هذا السياق، جاءت اتفاقيات التحالف المبرمة سنة 1813 بين النمسا وبروسيا وروسيا وبريطانيا، والتي أعلنت خلالها أن هدفها من هزيمة فرنسا هو استعادة توازن القوى.
والحقيقة أن مفهوم توازن القوى لم يستعمل فقط بغرض الدفاع عن النفس من التصرف التعسفي لإحدى القوى الإقليمية، وإنما تم استعماله أيضا من قبل القوى الكبرى بهدف تبرير سياساتها التوسعية. وفي هذا الإطار، لاحظ "مارتن وايت" أنه مع تقسيم بولندا وتركيا في نهاية القرن الثامن عشر، وتقسيم تركيا وإفريقيا والصين في نهاية القرن التاسع عشر، "أصبح توازن القوى يعني في الواقع مبدأ توسع القوى العظمى على حساب الضعفاء".
وهذا هو المعنى (أي التوسع لتحقيق التفوق والحفاظ عليه) الذي أصبح مرتبطا بالسياسة الواقعية لاستراتيجية توازن القوى. وكما قال "نيكولاس جي. سبايكمان": "حقيقة الأمر هي أن الدول تهتم فقط بـ"التوازن" الذي يصب في مصلحتها. فهدفها ليس التوازن، وإنما تحقيق هامش مكاسب كبير". والواقع أنه كثيرا ما تم استعمال مفهوم "توازن القوى" بهذا المعنى خلال الحرب الباردة للدلالة على الحاجة إلى التفوق الغربي على دول الكتلة الشيوعية، وخصوصا على الصعيد العسكري. ويشهد على هذا عنوان بارز لصحيفة "نيويورك تايمز" سنة 1963 "(وزير الدفاع الأميركي) ماكنامارا يقول إن الغرب اليوم متفوق: القوات الأميركية قريبة من تحقيق توازن القوى" (19 نوفمبر 1963). وبالتالي فلم يعد "توازن القوى" يعني في حقيقة الأمر التوازن، وإنما عدم توازن القوى الذي يصب في مصلحة البلد المستعمل للعبارة، وهو المعنى نفسه الذي أصبحت تستعمله إسرائيل، القوة المهيمنة الإقليمية في الشرق الأوسط.
فمع تأسيس إسرائيل في 1948، واستيلائها على المزيد من الأراضي العربية في 1949، تم وضع حدود اختلال القوى بين إسرائيل وجيرانها العرب بوضوح. وحدود الاختلال هذه هي التي أصبحت توصف بـ"توازن القوى" في الشرق الأوسط، والتي عملت إسرائيل وحلفاؤها الغربيون على الحفاظ عليها بقوة.
ولعل الإعلان الثلاثي الذي أصدرته الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا في الخامس والعشرين من مايو 1950 خير مثال على الاستعمال الخاص لكلمة "توازن القوى" في الشرق الأوسط. حيث اعتبرت القوى الغربية الثلاث أن الخطر الحقيقي في الشرق الأوسط لا يمثله التوسع الإسرائيلي وطرد الفلسطينيين، بقدر ما يمثله التهديد السوفيتي على "توازن القوى" في المنطقة. وهكذا لم تعلن الدول الثلاث عن معارضتها لضم الأراضي العربية بالقوة، وإنما على النقيض من ذلك تماما، أكدت على التزامها بالدفاع عن الحدود الجديدة بالقوة والحفاظ على "توازن القوى" الجديد.