مؤشرات مهمة ظهرت مؤخراً على الساحة الإسرائيلية- الفلسطينية، صحيح أنها مؤشرات خافتة تضيع أصداؤها وسط ضجيج الصخب الإسرائيلي حول ضرورة محاصرة حكومة "حماس" المرتقبة دولياً، إلى أن تعلن اعترافها الصريح بإسرائيل، غير أنني أعتقد أنها بداية يجب أن نركز الضوء عليها ومتابعة تطوراتها فيما بعد. لقد أعلن إسماعيل هنية قبل أن يقدم تشكيل حكومته إلى الرئيس الفلسطيني بأيام قليلة، مقولتين في حديث مع شبكة "سي. بي. إس" الأميركية. قال هنية في المقولة الأولى، إن يده لم تكن أبداً ملطخة بالدماء، وإنه لم يعط قط أمراً بتنفيذ عمليات عسكرية في إسرائيل وإنه سيمنع أي شاب فلسطيني من القيام بعمليات استشهادية، بل وإنه إذا جاء إليه ابنه ليقول له إنه يريد أن يصبح شهيداً فلن يعطيه مباركته على الإطلاق.
هذه المقولة الواضحة من هنية، تعني أنه استطاع أن يجد الصياغة المناسبة للتجاوب والتكيف مع المطالب الدولية التي تدعو "حماس" إلى نبذ استخدام العنف، كأحد الشروط لكسر طوق العزلة الدولية عنها. أما المقولة الثانية التي أطلقها هنية في نفس الحديث، فكانت خاصة بقضية الاعتراف بإسرائيل والشروط اللازمة لها. قال هنية إن التخلي عن المقاومة والاعتراف بإسرائيل يتطلبان أن تعترف إسرائيل بحق الفلسطينيين في دولة مستقلة في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، وحينها يكون هناك مجال للتفاوض مع إسرائيل.
إن صياغة المقولة على هذا النحو تمثل في تقديري، اختراقاً سياسياً موفقاً من جانب "حماس" للمخطط الإسرائيلي الهادف إلى انتزاع اعتراف "حماس" بإسرائيل تحت الضغوط الدولية، بدون مقابل سياسي. هنا أصبحت أمام العالم صورة واضحة قائمة على الاعتدال السياسي والواقعية السياسية والأخذ بفنون التفاوض السياسي لرئيس الوزراء الفلسطيني. وهذه المقولة والصورة معاً، يجب ألا نتركهما تنزويان أو تضيعان وسط زحام الأحداث.
مرة أخرى أؤكد أن الدبلوماسية العربية والقمة العربية مطالبتان باستثمار هذه المقولة استثماراً أمثل لنتمكن من كسر جدار العزلة المطلوب إسرائيلياً على "حماس". لقد سبق في مقالٍ لي في "وجهات نظر" أن أكدت أن أعظم ما يميز موقف الدول العربية عن الموقفين الأوروبي والأميركي من قضية صعود "حماس" كحركة إسلامية إلى السلطة، هو أن حكوماتنا العربية تضع نصب أعينها المصالح الوطنية للشعب الفلسطيني، وضرورة تحقيق طموحاته في إقامة دولته المستقلة، بغض النظر عن طبيعة الحكومة التي يختارها هذا الشعب لحكمه وتمثيله، في حين أن الموقف الأوروبي-الأميركي المشترك، يقوم تحت التأثير الإسرائيلي على التركيز على طابع الحكومة الفلسطينية الجديدة واستغلال هذا الطابع لفرض الحصار على هذا الشعب.
إن أهم الأسئلة التي تتبادر إلى الذهن، بعد هاتين المقولتين من جانب هنية، هو السؤال المتعلق بقدرة حكومة "حماس" على تحطيم مخطط للتسوية المنفردة من جانب واحد، والذي أعلنه إيهود أولمرت ولقي -مع بعض التحفظ- تأييداً من زعيم حزب العمل الإسرائيلي عامير بيريتس. وحدد أولمرت ملامح الحدود التي يراها على النحو التالي:
ضم المناطق التي تقوم عليها الكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة الغربية وضم القدس ومحيطها وضم غور الأردن، وهو مخطط يعني حشر المناطق المأهولة بالسكان الفلسطينيين في الضفة بين الجدار العازل غرباً والقوات الإسرائيلية التي ستتمركز على حدود المملكة الأردنية شرقاً. لقد تجاوب زعيم حزب العمل عامير بيريتس مع هذا المخطط من حيث المبدأ، وإن تحفظ بالقول إنه يفضل الحصول على موافقة الرئيس محمود عباس على التسوية من خلال المفاوضات في البداية، وإنه يمكن اللجوء إلى مخطط التسوية أحادية الجانب كمخرج نهائي إذا ما رفض عباس التسوية على هذا الأساس.
ولقد سمعنا الرئيس عباس يرفض صراحة هذا المخطط وهذه الحدود المقترحة، وفي نفس الوقت لاحظنا أن أولمرت يعتمد لتمرير مخططه أحادي الجانب على تبريره بالقول إن حكومة "حماس" ليست شريكاً في السلام لرفضها الاعتراف بإسرائيل. فهل يمكن لمقولتي هنية بالاستثمار العربي الأمثل تحطيم هذا المخطط؟ هذا ما أرجوه.