حين تصدى مرصد الإصلاح العربي بمكتبة الإسكندرية لتقييم معدلات التقدم في الميادين المختلفة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كان من الواضح يسر المهمة بالنسبة لبعض الجوانب، وصعوبتها فيما يتعلق بجوانب أخرى.
وكما قررنا من قبل فإن مؤشرات الإصلاح السياسي التي تتعلق بالتحول الديمقراطي معروفة إلى حد بعيد. وأهمها على وجه الإطلاق وجود دستور يحدد حقوق المواطنين وواجباتهم، ووضع المؤسسات التشريعية والهيئات القضائية والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، والصحافة والإعلام، ووضع الحقوق والحريات العامة. غير أن فريق بحث الإصلاح السياسي أضاف مؤشرات جديدة أهمها الشفافية ووسائل الرقابة والمحاسبة والمساءلة، ومؤشرات ترشيد السلطة، وفعالية النظام السياسي.
أما فريق الإصلاح الاقتصادي فقد كان موفقاً في صياغة تعريف شامل للإصلاح يجمع بين ضرورة الاندماج في الاقتصاد العالمي، وتحقيق اعتبارات العدالة الاجتماعية في نفس الوقت. وهذا التعريف من شأنه أن يؤثر على توجه المؤشرات لقياس التقدم في المجال الاقتصادي. ولكن الصعوبة الحقيقية التي واجهها فريق المرصد هي التصدي لتقييم كل من الإصلاح الاجتماعي والإصلاح الثقافي، والحاجة الملحة لصياغة مؤشرات مستحدثة لذلك.
وكان من الواضح أن إصلاح المجتمع العربي يقتضى أولاً تشخيص أزمته الراهنة التي تتمثل في عديد من المشكلات التي تواجهه.
وقد كان الدكتور علي أبو ليلة أستاذ علم الاجتماع بآداب عين شمس والمسؤول عن الجوانب الاجتماعية والثقافية في مرصد الإصلاح العربي موفقاً في البدء بالتشخيص العام للمجتمع العربي، وذلك في تقرير مرصد الإصلاح العربي الأول عن "الإشكاليات والمؤشرات"، قبل أن يتقدم خطوات أخرى نحو صياغة عدد من المؤشرات الأساسية.
وينطلق هذا التشخيص من نظرية أساسية مبناها أن هناك ثلاثة عوامل أثرت على الأزمة التي يواجهها المجتمع العربي، وهي ظروف التحول الاجتماعي وتأثير الحالة الاستعمارية، ومتطلبات عملية التحديث. بعبارة أخرى اقتضى تطور المجتمع العربي الانتقال من صيغة المجتمع الزراعي والبدوي إلى صيغة المجتمع الصناعي. ومعنى ذلك تفكيك نظم المجتمع التقليدي لبناء مجتمع حديث، غير أن عملية التفكيك –كما يقرر تقرير المرصد الأول– إن كانت قد تمت غير أن عملية بناء المجتمع الحديث لم تكتمل، لأنه قابلتها صعوبات متعددة. بعض هذه الصعوبات يعود إلى نوعية الأنظمة السياسية العربية الحاكمة والتي لم تقبل التحول من الصيغ التقليدية لممارسة السلطة، وبعضها يعود إلى الأنساق الاقتصادية والاجتماعية السائدة، والتي مارست أنواعاً شتى من مقاومة التحديث. وهكذا ظهرت الفجوة بين المجتمع التقليدي والمجتمع الحديث، وهي التي عرفت بالمرحلة الانتقالية والتي تحولت –للأسف الشديد– إلى حالة دائمة سواء في السياسة أو في الاقتصاد أو في المجتمع.
وظهرت مشكلات وتحديات جديدة لعل أهمها زيادة معدلات البطالة وخصوصاً بين شريحة الشباب، وازدياد دوائر الفقر، وتدني نوعية الحياة.
وفي مجال تشخيص أزمة المجتمع العربي وضع تقرير المرصد الأول يده على عدة مظاهر للأزمة المجتمعية، أهمها اهتزاز توازن الأسرة العربية، وتهميش وضع المرأة العربية، وتردي أداء النظام التعليمي، وانتشار العشوائيات ومظاهر الاستبعاد الاجتماعي. وقد طرح فريق المرصد السؤال التالي: ما الذي يمكن لمرصد الإصلاح العربي أن يقيسه من متغيرات لكي يرصد التقدم في عملية الإصلاح؟
وكانت الإجابة أن المرصد يمكن له أن يتابع حالة الأسرة العربية، وحالة النظام التعليمي، ونوعية الحياة في الحضر، ومدى احترام حقوق الإنسان العربي، وأخيراً رصد حالة التهميش الاجتماعي على الصعيد العربي.
واستقر فريق المرصد على عدد من المؤشرات الاجتماعية تكون هي أساس القياس والتقييم. وهي مؤشرات لقياس نوعية الحياة في العالم العربي، وأوضاع الفئات الاجتماعية ومشكلاتها والتهميش الاجتماعي، وحالة الاستقرار الاجتماعي، وتمكين المرأة. والمؤشر الأول عن نوعية الحياة –كما يقرر تقرير مرصد الإصلاح العربي لعام 2005- "من المفاهيم الأساسية التي لقيت اهتماماً كبيراً على الصعيد العالمي ابتداءً من فترة السبعينيات، حيث تركز الاهتمام في إشباع حاجات البشر الأساسية من خلال فرص الإشباع المتاحة. وارتباطاً بذلك برز مفهوم دولة الرفاهية التي تعني اتساع مساحة الإشباع الرأسي، الذي يقصد به إشباع أكبر عدد من الحاجات البشرية، بالإضافة إلى اتساع مساحة الإشباع الأفقي الذي يعني إشباع غالبية البشر في المجتمع".
كان نموذج دولة الرفاهية هو النموذج المستهدف عالمياً غير أن عدداً محدوداً من الدول في العالم الثالث استطاع تحقيق هذا الهدف، لأنها عجزت عن توفير الحد الأدنى لنوعية الحياة الإنسانية الملائمة لسكانها.
ونوعية الحياة لا تعني فقط الإشباع المادي لحاجات الإنسان، ولكنها بالإضافة إلى ذلك تشمل الحاجات اللامادية المتمثلة في تحقيق الذات وتنميتها والتعبير عنها.
وعلى هذا النحو –كما يقرر تقرير المرص