لم تدرْ بخلدي مطلقاً ولا في أي وقت من الأوقات أي تخيلات غير واقعية أو أوهام عن حجم التحديات التي تواجه العراق وشعبه. فعندما خاطبت مجلس "العموم" البريطاني أثناء جلسته التي سبقت بدء العمليات العسكرية في العراق منذ ثلاثة أعوام، قلت إن قضية العراق هي أصعب قضية اضطررتُ للتعامل معها على وجه الإطلاق، ومازال الأمر كذلك إلى يومنا هذا بعد مرور ثلاث سنوات على دخولنا العراق للإطاحة بنظام صدام.
ولكن مع إدراكي لتلك الصعوبات، وكذلك مع كوني واقعياً، أعرف أنه مازالت أمامنا أوقات أخرى قاتمة، إلا أنني على يقين قاطع بأن جهود أولئك الذين يشعلون نيران الصراع المدني داخل العراق ستُمنى بالفشل ولن ينجحوا في مسعاهم.
لقد زرتُ العراق ثلاث مرات على مدار الثلاثة أشهر الأخيرة وكانت آخرها منذ وقت قصير. وبينما كنت في سبيلي لمغادرة بغداد كانت مقولة "التفاؤل" هي الصفة التي تجري على لسان حالي. لكن لم تكن هذه مقولتي أنا، بل أوحى لي بها أحد زعماء السُّنة بالعراق. فعندما لقيته لأول مرة كان الرجل رافضاً بل معادياً للعملية السياسية بالعراق. إلا أن موقفه تغير بعد أن رأى الفرص السانحة لجماعته من خلال انخراطهم بهذه العملية.
إلا أن التفجيرات وأعمال سفك الدماء الأخيرة ساهمت في إضعاف وزعزعة ذلك التفاؤل في عدة مناسبات منذ ذلك الوقت.
الاعتداء البشع على المزار الشيعي في سامراء -والذي أثار تناحراً ثأرياً فظيعاً- فضح نوايا الإرهابيين بصورة غير مسبوقة وإن كانت مؤسفة. فليس لهذا الهجوم البشع من تبرير، ولا حتى بمنطق الإرهابيين المنحرف. فلم يكن هذا الهجوم ضد من يُسمّونهم "المحتلين" (أي القوات البريطانية والأميركية وأعضاء التحالف الآخرين)؛ كما لم يكن هجوماً على من ينعتونهم بـ"المتعاونين" مع "المحتلين"؛ ولا حتى الآخرين ممن يصفونهم بـ"الكفار والصهاينة". بل كان ذلك عدواناً على الإسلام بحد ذاته، وبالتحديد على الملايين من مُعتنقي المذهب الشيعي. والمُدهشُ أن من اقترفوا هذا العدوان يدَّعون أن طريقهم للفوز بالجنة هو عَبْر مثل هذا العُنف.
إن العراق الآن يقف عند نقطة خيار خطرة، فهل سينجح العراق والعراقيون في تجاوزها؟ إنني أعتقد ذلك، ولسبب أساسي يفوق كل الأسباب الأخرى: ألا وهو أن اعتداء سامراء رغم بشاعته التدميرية التي يعجز اللسان عن وصفها يُعد هو نفسه أبلغ دليل على العجز التام للإرهابيين عن تحقيق مآربهم. فإن جُلّ ما يطمحون لتحقيقه منذ منتصف عام 2003 هو تقويض مسيرة العراق نحو حكومة ديمقراطية تمثل الجميع.
كثيرا ما تزامنت مراحل تنفيذ جدول إحلال الديمقراطية بالعراق -كما رسمته قرارات الأمم المتحدة المتعاقبة- مع خلفية من أعمال العنف الإرهابي الذي شمل العراقي ضد العراقي والمسلم ضد المسلم. ولكن في كل المراحل -وفي بعض الأحيان كان ذلك محل إثارة دهشتي- انتصرت إرادة الشعب العراقي.
فعندما كنت في بغداد في شهر نوفمبر من عام 2004 للتباحث حول تدابير عملية الانتخابات مع مسؤولي الأمم المتحدة وكبار المسؤولين العراقيين كان يعتريني الشك فيما بيني وبين نفسي تجاه قدرة العراقيين على إنجاز تلك التدابير، ولكنني كنت مخطئا في ظنوني.
حيث أثبتت الانتخابات التي جرت في شهر يناير 2005 وإقرار الدستور في شهر أغسطس من العام ذاته والاستفتاء على الدستور في شهر أكتوبر الماضي والانتخابات التي أعقبته في شهر ديسمبر أن العراقيين متمسكون تمسكاً كاملاً بالعملية الديمقراطية. وواقع الأمر أنه في كل مرة ذهب فيها العراقيون لصناديق الانتخاب كانت نسبة المشاركة تزداد في كل مرة عن سابقتها إلى أن وصلت نسبة المشاركة في آخر مرة إلى 75%.
إن الكثيرين في العراق ممن كانوا قد قاطعوا العملية السياسية سابقاً أضحَوا الآن أكثر تقبلاً لبعض الأمور التي لطالما أشرتُ إليها في أحاديثي مع كل الساسة العراقيين، حيث كنت أقول: إن الديكتاتورية هي لعبة أحادية الطرف (أي أن قوتي لا تتأتى إلا على حساب الآخرين) أما الديمقراطية فليست كذلك. فالديمقراطية ليست فقط إعطاء الفرصة الأكبر للأغلبية في إبداء الرأي واتخاذ القرار بل هي أيضا -وبصفة جوهرية- حماية الأفراد والأقليات. وبالتدريج بات هناك تحسن مطرد في استيعاب مفهوم الديمقراطية بين جميع طوائف المجتمع العراقي، وبأنهم يَجْنون من خلالها حريات أكثر وفرصاً أكبر لتقرير مصيرهم مقارنة بما كان عليه الحال تحت نظام صدام.
لم تُسفر الانتخابات في ديسمبر الماضي عن إعطاء أغلبية مطلقة لأي من الأحزاب أو الكتل السياسية في البرلمان الجديد، كما يتفق أغلبية المُنتخَبين الآن أنه لن يكون بإمكان أي جماعة سياسية منفردة تشكيل وإدارة الحكومة، بل ويحسن ألا يكون الحال كذلك.
ويوازي انتشار النشاط السياسي في العراق حدوث تطور على صعيد نقل المسؤوليات الأمنية إلى العراقيين؛ فتولي قوى الأمن العراقية لزمام العمل الأمني في تزايد مطرد، بل في واقع الأمر أن عدد قوات الأمن العراقية يفوق الآن عدد القوات الدولية، وقد قادت القوات العراقية -وبنجاح- التداب