محمود درويش ليس شاعراً مبتدئاً، ولا كاتباً في أول السلم، ولا هو رجل يستمع مديحاً لأول مرة في حياته.
إنه شاعر كبير، وجمهوره عريض، ومحبوه كثر...
لكن ذلك كله لم يمنع محمود درويش من أن يتأثر بعمق نظير تكريم إحدى الصحف السعودية له بنشرها ملفاً عنه.
جاءت حروف درويش عميقة التأثر وهو يرسل لتلك الصحيفة شكره؛ فقال إنها جددت إيمانه بـ"أن الحب ما زال ممكنا والشعر ما زال ضروريا"، معتبراً الاحتفاء بالمبدعين الأحياء "تقليداً نبيلاً"، وتكريس هذا التقليد يعلمنا "كيف نحترم الأحياء... وكيف نواجه ثقافة الكراهية بثقافة الحب".
تلمسوا نبرة صوت درويش في رسالته للصحيفة، وهو يقول: "لا أستطيع أن أخفي عنكم عمق تأثري العاطفي والثقافي بحفاوتكم الكريمة بتجربتي الشعرية المتواضعة. فليس من عاداتنا، نحن العرب، تكريم أحيائنا. لذلك سألت نفسي، وأنا أتصفح عدد مجلتكم الثقافية المكرَّس لي: هل مِتُّ ولم أنتبه؟ وسرعان ما انتشلتني من هذا السؤال القراءة المتأنيةُ للمقالات والشهادات الخارجة عن المألوف، والتي جدَّدت إيماني بأن الحُبّ ما زال ممكناً، وبأن الشعر ما زال ضرورياً... وأيقظتْ فيَّ وعي المسؤولية ومطالبة الذات ببذل المزيد من الجهد لأكون جديراً بهذا الدعم المعنوي الكبير، ووفيّاً للقارئ المجهول، وهو المبدع الثاني الذي يمنح الشعر حياته الحقيقية، حيث يجد فيه المشاركة والصوت والصدى.
لا أعرف كيف أُعبّر لكم عن امتناني العميق وشكري، لأنكم ذكَّرتموني بجدوى الاجتهاد في البحث عن تعريف للشعر لا يُدْرَك. كما أنني لا أَعرف كيف أَصوغ عبارات المحبة للنقّاد والشعراء والكتّاب والفنانين الذين أسبغوا عليَّ من كرمهم وتشجيعهم الأدبي ما دفعني إلى التساؤل: هل أنا حيٌّ ولم أَنتبه؟ أَتمنّى أن تكرِّسوا هذا التقليد النبيل، لنتعلَّم جميعاً كيف نحترم الأحياء أيضاً! وكيف نقاوم ثقافة الكراهية بثقافة الحُبّ!".
ويبقى السؤال الكبير الذي يفرضه وشي صوت درويش في رسالته المكتوبة، ومتعته الطبيعية كما فرحة الأطفال واستمتاعهم بأشيائهم: لماذا لا نتذكر إلا الموتى لنحزن عليهم، ونذكر مآثرهم، ونستعرض خصالهم، ونسعد بالحديث عن جميل أفعالهم؟!
أما كانت الفرصة سانحة لأن نستمتع بمن نحب ونحن تستنشق أنفاسهم، ونتنفس عبق رائحتهم؟!
هذا الحديث لا يقتصر على المبدعين، بل هو متعلق بآحاد الناس، متعلق بمن نحب إن كان صديقاً أو صديقة، أخاً أو أختاً، زوجاً أو زوجة...
يجب أن نستثمر كل دقيقة في حياة من نحب، ونحن نحبه، ونعلن له محبتنا، ونستمتع به وبما ينثره من جمال حولنا. صدقوني، إن الدنيا قصيرة جداً، وفواجعها كثيرة، وكلما تقدمت الحياة، وزادت صنوف الراحة فيها، ازدادت على الطرف الآخر فرص الفواجع، أعاذنا الله وإياكم منها.
قبل بضعة أعوام تعرفت على صديق جديد، أحببته، وأحسبه أحبني. ذات يوم وجدتني وأنا أقضي معه ومع مجموعة من الأصدقاء بضعة أيام في نزهة برية، أحضنه بقوة، وأقول له إني أحبه! لا أدري ماذا دفعني إلى هكذا تصرف! بل إنه هو استغرب، رغم المتعة التي كانت تكسو معالم وجهه. بعد يوم واحد فقط، كان يقود سيارته في الصحراء، ففاجأه منخفض بري، فاصطدمت به السيارة وكان أثر ذلك وفاة صديقي رحمه الله. حزنت على فراقه كثيراً، لكني لم استمتع بشيء كما ضمتي له قبل ساعات من وفاته، وكأني أردت أن أعلن له محبتي قبل رحيله!
كم من الألم سيصيبني بالإضافة إلى ألم فراقه، لو بقيت تلك المشاعر حبيسة دواخلي، دون أن أبوح بها!
قررت بعدها ألا أتوانى عن إعلان مشاعري لمن أحبهم، وأن أستمتع بهم حتى الثمالة!