التصريحات السودانية المتضاربة، والأدوار المتناقضة لبعض القادة والتهييج الصارخ في السلطة وقاعدتها، والاندفاعات والتراجعات على المستوى السوداني والعربي عموماً، باتت ظاهرة ملفتة في أكثر من عاصمة عربية، لتقول جميعها إنه لا الحالات القطرية، ولا العمل العربي المشترك، بقادرين على الوصول لتفهم صحيح لطبيعة الموقف الدولي والاستراتيجية الثابتة، والمرتبة، والمعقلنة للسلطة الأميركية التي تبدو مطلقة أمام كل الأنظار والنظم، متطلبة جبهات داخلية وإقليمية مختلفة عما نرى.
وقد يدرك من يقرأ المواقف في إيران ودمشق، بعض الفارق مع من يقرأ ذلك في بيروت أو فلسطين أو طرابلس أو القاهرة، أما من يتوقف عند الخرطوم فسوف يصاب بالدوار.
هذه الحالة التي تكشف عن هشاشة كثير من النظم العربية القائمة، أصبحت تكشف أيضاً عن هشاشة أكبر في النظم الإقليمية المتعددة التي تشارك فيها النظم العربية أو الأفريقية والتي لا تكشف عن تشددها الملحوظ، إلا عندما يعني الموقف استقرار هذا النظام أو ذاك.
إن منظر انسحاب دور الجامعة العربية في العراق أو لبنان مثلاً، لا يمكن أن يضاف لقوة أي نظام إقليمي أو للقوى الإقليمية التي تعتمد عليها الجامعة العربية، بما لا مجال لتسميتها. ولا يمكن لمحلل إلا أن يقول إن التدخل الأجنبي أو حتى "الدولي"، لشل هذا الدور الإقليمي إنما يأتي في أجواء حماية النظم القائمة، مع أنها كانت فرصة تاريخية لاستعادة هذه النظم لبعض ملامح وجودها وحجمها الإقليمي، والتقاط شعوبها لأنفاسها من ضربات لا تفيق منها في أقصى الشرق أو الغرب من الوطن العربي وأفريقيا.
أما حالة السودان الخاصة، فقد بزغت فجأة على السطح، رغم طول المسلسل السوداني، كحالة مؤسفة لتدهور النظام القطري والإقليمي على السواء، وهي التي تجعل عنوان "التدخل لحماية النظم من نفسها" ممكناً بهذا القدر المزعج فعلاً. ففي الموقف السوداني الذي يحزننا تعرضه لكل هذا القدر من سفه النظام العالمي وقيمه المزدوجة، تتضارب المسلمات والبيانات، فثمة قبول بـ"قوات دولية" قائمة على الأرض السودانية لحماية اتفاق ماشاكوس أو نيفاشا، وثمة مبعوث مقيم للأمم المتحدة في الخرطوم يمطر البلاد بلاذع التصريحات عن الاغتصاب والفوضى، ومبعوثين لأجهزة اللاجئين وحقوق الإنسان... وغيرهم يصرحون بما يرضي ويسيء كل صباح حتى أصبح الجمهور السوداني ينفث عن نفسه بقذفهم بالطوب والشتائم والاحتجاج على السواء.
وهناك محادثات في "أبوجا" حول اقتسام السلطة والثروة والأمان في ظل مراقبات إقليمية ودولية، والحديث عن اتفاق على نمط نيفاشا الذي يتضمن "الوجود الدولي" لتأمينه دون حرج، أي أننا كنا دائماً في انتظار الحضور الدولي بين لحظة وأخرى حتى قبل سبتمبر 2006 "الموعد الدولي" الجديد لحضورها.
ولا يكفي السودان مأساة المعالجات القائمة في جنوبه أو غربه، ذلك أن شرق السودان ينتظر دوره أيضاً ليبدو أكثر تعقيداً -كما أتوقع- بسبب وجود أطراف مثل الحركة الشعبية والتجمع المعارض، وإريتريا، في الموضوع عقب الانتهاء من "أبوجا" أو قبل ذلك وفق ظروف التوتر القائم.
وقد بدت المعالجات السودانية المتضاربة، مع التهديدات الكلامية المفرطة في العنف من قبل قادة القوات المسلحة إلى الاستنكار ثم التراجع، على مستويات مختلفة في السلطة بالنسبة لـ"التدخل الدولي" في غاية الغرابة، حتى جاء بيان مجلس الأمن والسلم بالاتحاد الأفريقي في العاشر من مارس 2006 الذي نص في سطره الأول مبتدئاً بكلمة "قرر تأييد مبدأ نقل مهمة "بعثة" الاتحاد الأفريقي إلى "عملية" للأمم المتحدة"! هذا البيان اعتبر نجاحاً عند مسؤول سوداني وخيانة عند آخر، وتفهماً بالربط بينه وبين تحقيقه المنطقي بعد إتمام اتفاق "أبوجا" عند مسؤول ثالث!
هذا التضارب بين الخارجية والمستشارين ونواب الرئيس والجيش وجماهير المؤتمر الوطني الحاكم، بل ورئيس وفد التفاوض في "أبوجا" لا يمكن أن يساعد جبهة داخلية على حماية نفسها، وأصبح مرتعاً لكل التحليلات وخاصة غير المشفقة على السودان للقول إن التدخل الدولي هو الذي سيحمي السودان من نفسه.
كذلك كان حال الاتحاد الأفريقي ومجلسه الموقر للأمن والسلام! والمجلس يضم بين أعضائه الخمسة عشر بعض الدول العربية: مصر وليبيا والجزائر والسودان، وهو لم يلجأ لمخاطبة "المجتمع الدولي" مثلاً لتمويل استمرار مهمته، بل كان يمكنه أن "يضغط" على الدول العربية صاحبة مواثيق التعاون العربي- الأفريقي، خاصة وقد اكتسبت خبرة الحضور في دارفور ولا ينقصها إلا العون المادي واللوجستي. ولكن أحداً لم يستطع حماية الاتحاد الأفريقي من نفسه بدوره مثل حال الجامعة العربية على المستوى العربي، فأصدر بياناً غاية في الإساءة لنفسه من البدء بمخالفة على نقل مهمته لغيره إلى تناوله لكل ما يعقد الموقف أمام السودان من شروط الانتهاء من اتفاق "أبوجا" قبل نهاية أبريل 2006، إلى حل النزاع مع تشاد إلى التعامل الرقيق مع انتهاكات التنظيمات المتمردة للاتفاقات المعقودة معها ف