أنكر خصوم الدعوة المحمدية من قريش نبوة محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم كما أبرزنا ذلك في مقال سابق. ومع أن فتح مكة وانتصار الإسلام قد جعلا حدا نهائيا لذلك، فإن اتساع رقعة الدولة الإسلامية وامتدادها شرقا إلى حدود الصين، وغرباً إلى المحيط الأطلسي، وتدفق "الملل والنحل" على المجتمع العربي الإسلامي في العصر العباسي الأول خاصة... قد فتح المجال واسعا لمختلف المذاهب والفرق غير الإسلامية، وكان من بينها أولئك الذين تأثروا بآراء البراهمة من الهند الذين ينكرون النبوات. واشتهر في هذا المجال ابن الراوندي المتوفى حوالى منتصف القرن الثالث، والذي تنسب إليه مصادرنا رسالة سماها "الزمردة"، نقل فيها آراء البراهمة من الهنود في إنكار النبوات.
ويبدو أن هذا الكتاب قد لقي انتشارا واهتماما كبيرين، إذ تصدى للرد عليه كثيرون، كما ألف في إثبات النبوات فلاسفة إسماعيليون وغيرهم من الشيعة –ومعلوم أن المذهب الشيعي يقوم على الإمامة والولاية، وأساسهما النبوة. أما الفارابي فقد صاغ نظرية فلسفية تفسر ظاهرة النبوة بالمقارنة مع وضعية الفيلسوف. ومع ذلك يبدو أن آراء البراهمة في إنكار النبوات قد انتشرت في القرن الثالث خصوصا وبقيت حية في المجتمع الإسلامي حتى القرنين الخامس والسادس، وقد تصدى للرد عليها كبار المتكلمين أمثال الشهرستاني والباقلاني من الأشاعرة، والقاضي عبدالجبار من المعتزلة، وفيما يلي موجز لردودهم.
يتميز منهج المتكلم/ الفيلسوف الأشعري أبي الفتح محمد عبدالكريم الشهرستاني (479- 548هـ) بإيراد آراء الخصوم بكل أمانة وموضوعية ثم الرد عليها ومقارعتها بحجة العقل، يلي ذلك شرح مذهب الإسلام في القضايا المطروحة باعتماد صريح العقل وصحيح النقل، شأنه في ذلك شأن كبار علماء الإسلام، أمثال القاضي عبدالجبار المعتزلي، وابن رشد الفيلسوف، وابن تيمية الحنبلي... الخ.
في إطار هذا المنهج الذي يؤسسه قوله تعالى "وجادلهم بالتي هي أحسن"، يعرض الشهرستاني في كتابه "الملل والنحل" آراء البراهمة أولا، ثم يتصدى للرد عليها ثانيا، مبيناً طريقة الإسلام في إثبات النبوة، ملتزما وضوح العبارة وهدوءها وسلامة الخطاب من كل تشنج أو صخب. وهكذا يبدأ بإيراد نص دعوى البراهمة، فيقول: "قال رئيس البراهمة في التدليل على استحالة النبوة: إن الذي يأتي به الرسول لم يخلُ من أحد أمرين‏:‏ إما أن يكون معقولاً، وإما أن لا يكون معقولاً. فإن كان معقولاً فقد كفانا العقل التام إدراكه والوصول إليه، فأي حاجة لنا إلى الرسول؟ وإن لم يكن معقولاً فلا يكون مقبولاً، إذ قبول ما ليس بمعقول خروج عن حد الإنسانية ودخول في حريم البهيمية‏"!‏ وقال (رئيس البراهمة): "قد دل العقل على أن الله تعالى حكيم، والحكيم لا يتعبد الخلق إلا بما تدل عليه عقولهم، وقد دلت الدلائل العقلية على أن للعالم صانعاً عالماً قادراً حكيماً وأنه أنعم على عباده نعماً توجب الشكر، فننظر في آيات خلقه بعقولنا ونشكره بآلائه علينا‏.‏ وإذا عرفناه وشكرنا له استوجبنا ثوابه، وإذا أنكرناه وكفرنا به استوجبنا عقابه. فما بالنا نتبع بشراً مثلنا‏!‏ فإنه إن كان يأمرنا بما ذكرناه من المعرفة والشكر فقد استغنينا عنه بعقولنا، وإن كان يأمرنا بما يخالف ذلك كان قوله دليلاً ظاهراً على كذبه‏".‏ ويضيف الشهرستاني: واحتج منكرو النبوة من هذه الفرقة الهندية بالقول: "إن أكبر الكبائر في الرسالة اتباع رجل هو مثلك في الصورة والنفس والعقل، يأكل مما تأكل، ويشرب مما تشرب، حتى تكون بالنسبة إليه كجماد يتصرف فيك رفعا ووضعا، أو كحيوان يصرفك أماماً وخلفاً، أو كعبد يقدم إليك أمراً ونهياً. فأي تميز له عليك؟ وأي فضيلة أوجبت عليه استخدامك؟ وما دليله على صدق دعواه؟".
وبعد هذا العرض الصريح والواضح لآراء منكري النبوات من الهنود يرد عليهم الشهرستاني، منطلقا مما يقول به أهل السنة في إثبات النبوة، مستندا على جواب القرآن لقوم قالوا في رسلهم مثل ما قاله البراهمة أعلاه، أعني قوله تعالى: "قالت لهم رسلهم‏ (رسل الأقوام المنكرين للنبوة):‏ إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمُن على من يشاء من عباده" (إبراهيم 11). ونظرية "المنة" هذه هي أساس حجاج أهل السنة في إثبات النبوات. يقول الشهرستاني مخاطبا البراهمة، شارحا هذه النظرية: "فإذا اعترفتم بأن للعالم صانعاً وخالقاً وحكيماً، فاعترفوا بأنه آمرٌ وناهٍ‏،‏ كالحاكم على خلقه، وله، في جميع ما نأتي ونذر ونعمل ونفكر، ‏حكم وأمر‏.‏ وليس كل عقل إنساني على استعداد ليعقل عنه أمره، ولا كل نفس بشرية بمثابة من يقبل عنه حكمه، بل أوجبت مِنَّتُه ترتيباً في العقول والنفوس، واقتضت قسمته أن يرفع "بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا، وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ" (الزخرف 32). ويضيف الشهرستاني في رده على البراهمة منكري النبوة، قائلا: "فرحمة الله الكبرى هي النبوة والرسالة، وذلك خير مما يجمعون بعقولهم المختالة‏".‏‏
النبوة عند أهل السن