بهذا العنوان طالعت كبرى الصحف الإسرائيلية "يديعوت أحرونوت" قراءها في صباح اليوم التالي للعملية الإسرائيلية في سجن أريحا التي انتهت بهدم السجن واعتقال أحمد سعدات الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ورفاقه المتهمين باغتيال وزير السياحة الإسرائيلي في عام 2001، إضافة إلى عشرات آخرين ضمتهم جدران السجن المهدم بتهم مختلفة، بعضها يتصل بمقاومة الاحتلال! ولعله يصعب على المرء أن يجد في حدث واحد دروساً ودلالات لا نهاية لها، كما يجد في الاعتداء على سجن أريحا.
في البدء يبرز جدل القانون والقوة، وهو في القاموس الصهيوني محسوم دائما لصالح الأخيرة، إذ اعتمدت الحركة الصهيونية منذ نشأتها وحتى الآن على القوة في تحقيق أهدافها ضاربة عرض الحائط بكل ما هو قانوني، فليس لها حق الاستيطان في فلسطين أصلاً وحتى إن كان لها فهي لم تلتزم بقرار التقسيم الذي أعطاها "شرعية" زائفة عام 1947، أو بغيره من قرارات الأمم المتحدة حول الصراع العربي- الإسرائيلي، وهي لم تلتزم باتفاقات الهدنة التي وقعتها مع الدول العربية عام 1949 حين ضمت لها مناطق منزوعة السلاح كما في حالة أم الرشراش المصرية التي هي إيلات الحالية، وهي لم تلتزم باتفاق أوسلو عام 1993... وغيره الكثير وصولاً إلى انتهاكها لاتفاق رام الله الرباعي الموقع عام 2002 والقاضي بوضع المعتقلين (المتهمين الستة باغتيال وزير السياحة الإسرائيلي) في سجن أريحا الفلسطيني تحت حراسة أميركية وبريطانية. وتشير كل الشواهد إلى أن إسرائيل تنوي المضي قدماً في انتهاكاتها بتقديمها هؤلاء المتهمين أمام محكمة إسرائيلية، علماً بأن اتفاق أوسلو لا يجيز لإسرائيل محاكمة أي فلسطيني سبق أن مثل أمام محكمة فلسطينية، وقد سبق لمحكمة العدل العليا الفلسطينية أن أصدرت قراراً بالإفراج عن سعدات، لكن السلطة الفلسطينية لم تنفذ القرار بسبب التهديدات الإسرائيلية والضغوط الأميركية.
بعد حديث القوة، يأتي حديث التواطؤ؛ حيث لا جديد تحت الشمس منذ عام 1948، ففي 14 مايو 1948 انسحبت القوات البريطانية من فلسطين لكي تفسح المجال لإعلان الدولة العبرية في اليوم التالي في إطار تنسيق يشبه كثيراً ما جرى قبيل اقتحام سجن أريحا وهدمه. فقد انسحب المراقبون ثم بدأت العملية فوراً في تواطؤ صارخ جعل رجلاً معتدلاً كمحمود عباس يصرح بعد العملية بقوله: "أنا لا أتهم أحداً ولكن عندما ينسحب المراقبون في التاسعة وعشرين دقيقة وتأتي بعدهم القوات الإسرائيلية في التاسعة والنصف، ما معنى ذلك؟". رد البريطانيون على تهمة التواطؤ بأنهم أبلغوا السلطة الفلسطينية بنية الانسحاب قبلها بأسبوع لكن عباس ورجاله أكدوا أنهم فعلوا دون أن يحددوا موعداً، وهو ما يعني أن دولتين بقوة الولايات المتحدة وبريطانيا غير قادرتين على فرض هيبتهما على إسرائيل! تبقى الدلالة الأخطر لهذا التواطؤ وهي أن أي حديث عن ضمانات دولية لتسوية يبدو مجدداً فاقد الصدقية تماماً، وهو أمر ليس بجديد فقد وقع الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون كشاهد على أوسلو وضامن له لكن ذلك لم يجنب الاتفاق مصيره المحتوم بسبب السياسة الإسرائيلية.
يأتي حديث التوقيت ثالثاً، فالعملية جاءت تالية لفوز "حماس" بالأغلبية في المجلس التشريعي الفلسطيني وسابقة للانتخابات الإسرائيلية، وقد فهم البعض أن الرسالة موجهة لـ"حماس"، ومضمونها إيضاح تام للكيفية التي تنوي إسرائيل أن تتعامل بها مع الحركة لو لم تذعن لشروطها، وهو فهم صحيح بطبيعة الحال لكن ذلك لا يخص "حماس" وحدها، بل يشمل السلطة الفلسطينية ككل، ولو كان الأمر غير ذلك لانتظرت إسرائيل يوم تسلم حكومة "حماس" رسمياً لكي تقوم بعملية أريحا وتسبب بالغ الحرج لـ"حماس" لكنها –أي إسرائيل- شاءت أن تمعن في إهانة "المعتدلين" الفلسطينيين وعلى قمتهم الرئيس محمود عباس بتنفيذ العملية قبل إعلان "حماس" تشكيلتها للحكومة.
يتصل بما سبق ضرورة التعليق على الآراء التي ذهبت إلى تحميل "حماس" –ولو على نحو غير مباشر- مسؤولية ما حدث على أساس أن تقدمها إلى مواقع السلطة قد قوض الدور الدولي في التسوية وأعطى إسرائيل ذريعة للتحلل من الالتزامات القانونية طالما أن الحركة سمحت لنفسها بعدم الموافقة على اتفاقات سبق للسلطة الفلسطينية أن عقدتها قبل فوز "حماس". والواقع أن هذا التحليل ينطوي على درجة لا بأس بها من التزيد؛ فالحضور الدولي قبل صعود "حماس" لم يفض في أي وقت من الأوقات إلى تقدم يذكر على طريق التسوية، وحتى عندما كان بعض التقدم يحدث –كما في حال أوسلو 1993- فإنه سرعان ما كان ينتكس، كذلك فإن تنكر إسرائيل لالتزاماتها الدولية سلوك إسرائيلي سبق بعقود من السنين صعود "حماس".
لا يقل أهمية عن توقيت فوز "حماس" توقيت إجراء الانتخابات الإسرائيلية التي اقتربت كثيراً، وقد كان ثمة ما يشبه الإجماع على أن عملية سجن أريحا بالنسبة لأولمرت تماثل ضرب المفاعل النووي العراقي بالنسبة لبيجين عام 1981 أو "عناقيد الغضب" لبيريز عام 1996.
نتوقف بعد ذلك عند حديث "ردود