وصف البعض الوضع في العراق بأنه مثل "الأنشوطة التي تضيق شيئا فشيئا" وذكروا أن "الوقت ليس في صالحنا" وأن "روحنا المعنوية منخفضة"، في حين تحدث آخرون عن انعطافة "خطيرة جدا" في تطور الأحداث، جعلتهم يشعرون "بالقلق البالغ".
من هم الذين عبَّروا عن تلك الهموم؟ في الحقيقة أن هذه الكلمات ذاتها هي الكلمات التي يستخدمها الإرهابيون -أبومصعب الزرقاوي وجماعته- عندما يقومون بوصف وضعهم، والذين يراقبون الآن بخوف التقدم الذي حققه العراق على مدار السنوات الثلاث الماضية. إن الإرهابيين يبدون لنا وكأنهم يعترفون بأنهم يخسرون معركتهم في العراق، وأنا شخصياً اعتقد أن التاريخ سيظهر أن هذا كان صحيحاً.
من حسن الحظ أن التاريخ لا يتشكل من "المانشيتات" اليومية للصحف، ولا من مواقع المدونين" البلوجرز" على شبكة الإنترنت، ولا من آخر هجوم مثير تم شنه، وإنما التاريخ عبارة عن صورة أكبر تحتاج إلى بعض الوقت وإلى زاوية نظر حتى يمكن تبين أبعادها بشكل دقيق.
علينا أن نضع في اعتبارنا أن العراق قد تحول خلال ثلاث سنوات من دولة يحكمها نظام ديكتاتوري وحشي كان قائماً منذ مدة طويلة، إلى حكومة مؤقتة منتخبة، إلى مصادقة على دستور جديد مكتوب بواسطة العراقيين، وإلى انتخاب حكومة دائمة في شهر ديسمبر الماضي. وفي كل انتخاب من تلك الانتخابات تزايدت أعداد الناخبين زيادة دالة من 8,5 مليون في شهر يناير 2005 إلى 12 مليوناً في انتخابات شهر ديسمبر على الرغم من التهديدات والهجمات الإرهابية.
ومن بين أهم التطورات التي حدثت خلال العام الماضي التطور الخاص بالمشاركة المتزايدة للطائفة السنية في العملية السياسية. ففي محافظة الأنبار غير المستقرة، التي يشكل فيها السُنة الأغلبية الساحقة، ارتفع عدد المشاركين في الانتخابات من 2 في المئة في انتخابات يناير من العام الماضي إلى 86 في المئة في انتخابات ديسمبر من العام نفسه. وشيوخ السنة والقادة الدينيون الذين كانوا متعاطفين سابقا مع المتمردين، يقومون الآن بالالتقاء مع ممثلي التحالف، ويشجعون العراقيين على الانضمام لقوات الأمن، ويقومون بشن ما يصفه المتطرفون المسلحون مثل أبومصعب الزرقاوي وأتباعه من تنظيم "القاعدة" بأنه "حرب شاملة" ضدهم.
والإرهابيون مصممون على تأجيج التوتر الطائفي، كما يحاولون إشعال فتيل حرب أهلية. ولكن وعلى الرغم من العديد من أعمال العنف والاستفزاز، فإن الغالبية العظمى من العراقيين، يريدون أن تظل بلادهم موحدة، وخالية من الصراع العرقي. ولقد رأينا هذا واضحاً الشهر الماضي عندما تم شن هجوم على مزارات الشيعة في سامراء، وقام زعماء الأحزاب السياسية المختلفة وقادة المجموعات الدينية بعدها بإدانة العنف، والدعوة إلى الهدوء وضبط النفس.
هناك تحول آخر دال وهو ذلك الذي حدث في حجم وقدرات ومسؤوليات قوات الأمن العراقية. وفي الحقيقة أن هذا التحول يكتسب أهمية حيوية، لأنه يعني أن العراقيين في نهاية المطاف سيقومون ببناء وتأمين بلادهم.
اليوم نجد أن هناك 100 كتيبة في الجيش العراقي، تتكون كل واحدة منها من عدة مئات من الجنود تخوض القتال الآن ضد الإرهابيين في الوقت الذي تقوم فيه 49 كتيبة عراقية أيضاً بالسيطرة على ساحة لمعركة. ونشير هنا إلى أن 75 في المئة من العمليات العسكرية التي تتم في العراق، تضم قوات أمن عراقية، وأن 50 في المئة من تلك العمليات يتم تخطيطها وقيادتها وتنفيذها بشكل مستقل من قبل العراقيين أنفسهم. وقد أصبحت لدى قوات الأمن العراقية في الوقت الراهن قدرة أكبر من قدرة قوات التحالف، على الكشف عن اللكنة الخاصة بالإرهابيين الأجانب، والتعرف على العناصر المحلية المشتبه بها، واستخدام القوة دون أن يؤدي ذلك إلى إثارة حساسية العراقيين .لقد كانت القوات العراقية –وليس الأميركية وليس قوات التحالف- هي التي فرضت حظر التجول، واحتوت أعمال العنف، بعد تفجير القبة الذهبية للمرقدين الشيعيين في سامراء. إن السبب المنطقي الذي دعانا للعمل من أجل إيجاد عراق حر وديمقراطي لا يزال صحيحاً اليوم تماماً مثلما كان صحيحاً منذ ثلاث سنوات. فالعراق الحر والمستقر لن يقوم بمهاجمة جيرانه، كما لن يتآمر مع الإرهابيين، ولن يدفع مكافآت لعائلات المفجرين الانتحاريين، ولن يسعى إلى قتل الأميركيين.
وعلى الرغم من أنه لا يزال هناك أشخاص لن يقتنعوا أبدا بأن قضية العراق تساوي التضحيات التي تم بذلها فيها فإن أي شخص ينظر إلى ما يجري في العالم اليوم بنظرة واقعية، وينظر إلى التهديدات الإرهابية التي نواجهها، سيتوصل إلى استنتاج وحيد وهو أن الوقت الراهن هو وقت التصميم على المضي قدما، وليس وقت التراجع.
علينا أن نضع في اعتبارنا أننا لو قمنا بالتراجع الآن، فإنه سيكون لدينا كل الأسباب التي تدفعنا للاعتقاد بأن "الصداميين" والإرهابيين سيتقدمون لملء الفراغ، وأن العالم الحر لن تكون لديه الإرادة للتصدي لهم مرة ثانية. إن قيامنا اليوم بإدارة ظهرنا لعراق فيما بعد الحرب، سيكون هو المعادل العصري لتسلي