بدأ الرئيس بوش يخفف من حدة لهجته إزاء ضرورة إحلال الديمقراطية في البلدان الإسلامية، وبدت كلماته في الآونة الأخيرة أكثر حذراً معبرة عن الأهداف الأميركية المتواضعة وتطلعاتها المتماشية مع واقع الدول التي تمتد من المغرب إلى باكستان. ولحد الآن مازال التغيير الذي ميز الخطاب الأميركي مؤخراً مستتراً وضمنياً، غير أن ما شهدته منطقة الشرق الأوسط في الفترة الأخيرة من صعود "حماس" إلى السلطة في انتخابات مدعومة أميركياً، وإدراك صعوبة زرع بذور الديمقراطية في العراق دفعت بوش إلى إعادة النظر في خطاب الديمقراطية والتخفيف من الحماسة التي طبعت مواقفه الأولى. هذا الحذر الذي يسم التحركات الأميركية حالياً سوف يستمر في المستقبل على الأقل حتى تستوعب الإدارة الأميركية المستجدات الطارئة في المنطقة، وتقرر كيفية التعامل معها، وهو ما يعني ترك عملية السلام في الشرق الأوسط معلقة إلى حين بروز موقف أميركي محدد من قضية الديمقراطية في البلدان الإسلامية.
فواز جرجس الخبير في السياسة الخارجية والأستاذ في كلية "سارة لورينس" بنيويورك يسلط الضوء على الحذر الأميركي بقوله "ثمة نقاش حاد يحتدم داخل الإدارة الأميركية يسعى إلى تقييم عملية ممارسة الضغوط على الأنظمة السلطوية في الشرق الأوسط" ويضيف "جرجس": إنه بالرغم من عدم تبلور رؤية أميركية جديدة، فإن الاتجاه العام للسياسة الأميركية يصب حالياً في مسار التخفيف من حدة الخطاب الداعي إلى الديمقراطية الذي كان سائداً قبل بضعة أسابيع". لذا فإن ما كان يسميه بعض المراقبين بحملة إدارة بوش لإحداث تغيير شامل بدأ نفسه يتغير ليفسح المجال أمام لغة أقل قوة تبدت في خطاب المسؤولين الأميركيين عن أهداف بعيدة المدى لدعم الديمقراطية، والحديث عن المبادرات الكفيلة بإطلاق التغيير لكن دون التسبب في زعزعة استقرار العالم الإسلامي.
ويبدو أن التحول الذي طرأ على المواقف الأميركية فيما يتعلق بفرض الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط الكبير يتكشف بجلاء في الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس بوش إلى باكستان، حيث حصر تطلعاته في الحديث عن "أمل" إحلال الديمقراطية، كما تجنب اللقاء بقادة المعارضة الذين كان بعض المدافعين عن الإصلاح في إدارته يلحون على لقائه بهم. وقد ظهر التحول أيضا أثناء زيارة وزيرة الخارجية كوندليزا رايس إلى مصر عندما أشارت إلى بعض التراجعات في مجال الانفتاح السياسي دون أن توجه انتقادات إلى حكومة الرئيس حسني مبارك. وحسب جرجس دائما "يشكل انحسار الضغوط الأميركية في مجال الديمقراطية أمرا جيدا بالنسبة لحكومات الشرق الأوسط التي يروق لها تراجع حدة المطالب الأميركية" مشيرا في هذا السياق إلى أن كوندليزا رايس لم تكلف نفسها عناء انتقاد قرار الحكومة المصرية بتأجيل الانتخابات المحلية لمدة سنتين. ورغم أن الأنظمة في العالم الإسلامي تتنفس الصعداء نتيجة هذا الخفوت في المطالب الديمقراطية القادمة من واشنطن، فإن العديد من الخبراء يرون أن ما يحدث في دوائر القرار الأميركي قد لا يكون أكثر من عملية إقران الخطاب بالعمل، والطموح بالواقع. "مارينا أوتاوي" خبيرة الديمقراطية في "منحة كارنيجي للسلام العالمي" بواشنطن، تشرح ذلك قائلة: "لقد سلكت سياسة الرئيس بوش في نشر الديمقراطية طريقين مختلفين يقوم الأول على تصعيد الخطاب المنادي بإحلال الديمقراطية، أما الطريق الثاني فيعتمد على الاتصالات الدبلوماسية مع الدول العربية التي غالبا ما تكون أقل حدة من الخطاب المعلن".
وتعتقد الخبيرة في مجال نشر الديمقراطية أن المبادرات التي أطلقتها إدارة بوش مثل مبادرة الشراكة الشرق الأوسطية سنة 2002 التي تسعى إلى دعم برامج التعليم وحقوق المرأة، والشركات الخاصة غير كافية "لخلخلة الأوضاع في العالم العربي بالشكل المطلوب كي تنبثق الديمقراطية". وتضيف "أوتاوي" إن أبرز تغيير يمكن رصده في الخطاب الأميركي بشأن العراق هو الانتقال من الحديث عن الديمقراطية وضرورة تحرير العراقيين من القيم الاستبدادية القديمة إلى التركيز على "الوقت الذي ستصبح فيه القوات العراقية جاهزة كي يتمكن الجيش الأميركي من الخروج دون خسائر، وهو تغيير جوهري في الخطاب الأميركي حول إرساء الديمقراطية". وتؤكد "أوتاوي" أيضاً على أهمية الخطاب الأميركي لأنه جزء من ورطة الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط. فقد أدت كلماتها المبالغ فيها عن الديمقراطية إلى خلق أجواء تتسم بالتوتر بين الأنظمة التي تخشى الضغوط الأميركية واحتمال لجوئها إلى القوة كما حصل في العراق، وبين الديمقراطيين الحقيقيين في العالم العربي الذين فوجئوا بأنهم ما زالوا يعشون في ظل الأنظمة الشمولية ذاتها بعدما وضعت واشنطن سقفا متدنيا لخطابها.
ويعزو بعض الخبراء بطء التطور الديمقراطي في الشرق الأوسط إلى الترابط الوثيق بين الجهود الرامية إلى نشر الديمقراطية وأيديولوجية الرئيس بوش. وفي هذا الصدد يؤكد "رايموند شونهولدز" رئيس منظمة "شركاء من أجل التغير الديمقراطي" التي تتخذ من مدين