لم تعد المناقشات عن مسألة "الاستعصاء الديمقراطي" في الشرق الأوسط، وضرورة إحداث تحولات إصلاحية في العالم العربي مجرد ترفٍ فكري أو ثرثرة سياسية باردة تثار في الندوات، وحلقات الفضائيات السياسية، التي يجتمع فيها عادة بعض المفكرين، ونشطاء جمعيات المجتمع المدني، وعتاة مخضرمي معارضة المنافي والفنادق والملاعق. لقد دخلت المسألة خلال السنوات الأخيرة مرحلة من الزخم، مهدت لها أن تصبح مجالاً للتداول العام، حتى لدى رجل الشارع العادي. و"البركة" –كما يقول الليبراليون العرب الجدد- في أميركا، التي ألقت بثقلها وراء المطالبات الديمقراطية الحالية، في منطقة الشرق الأوسط، وما زالت تخوض في متاهاتها بإصرار حتى الآن. أما "البركة" الحقيقية -من وجهة نظر ما تبقى من شراذم اليسار العربي- فهي في جهود المثقف المناضل العربي نفسه الذي ظل يناطح طواحين الهواء منذ عدة عقود، من أجل الوصول إلى يوم يرفع فيه شعار الديمقراطية والإصلاح، وكانت أميركا في كل مرة بمثابة حجر العثرة أمام تلك المحاولات وعندما رفعت يدها عن تلك الجهود، نرى الطوفان الديمقراطي القادم الآن إلى الدول العربية. والادعاءات كثيرة، و"النجاح" –إن كان ثمة نجاح- آباؤه كثيرون، أما الفشل فلا أب له، كما يقال.
لكن، بغض النظر عن كل هذه الثرثرة الأيديولوجية، هل هنالك حقاً مطالب جادة أفقية –من قِبل الشعوب العربية- بتفعيل الخيار الديمقراطي في الوطن العربي إلى حد يبرر كل هذا الزخم في التداول الإعلامي للمسألة؟ وهل هنالك رغبة عمودية –لدى معظم النظم العربية- في الاستجابة لهذه المطالب؟ هل وصف ما هو واقع من ممارسات غير ديمقراطية في بعض الدول العربية أجدى أم العمل على تحقيق مكاسب تدريجية كما حصل في مناطق أخرى من العالم، وبطريقة "واقعية"؟ ثم تنظيمياً، وإجرائياً، ما هو الخيار الديمقراطي العربي المناسب، في ضوء المشروع الديمقراطي الغربي، بكل تراكماته التاريخية وتجاربه المريرة؟ هل أصبح الإصلاح الديمقراطي العربي مطلباً دولياً- خارجياً، ولم يعد خياراً عربياً داخلياً؟ وما الفرق بين الحالتين... هل يكمن مثلاً في أن الخيار خرج من أيدينا مع مرور الوقت؟ هل أصبح الوطن العربي، وإصلاحه و"دمقرطته" بمثابة "مسألة شرقية" جديدة؟ هل أصبحنا "رجل العالم المريض"... إلخ؟
أعتقد أن القارئ يفهم جيداً الإحالتين التاريخيتين الأخيرتين، على "المسألة الشرقية"، و"الرجل المريض"، وقد ظهرتا في سياق التوصيف الغربي لأزمة الوجود التي عرفتها الدولة العثمانية في آخر أيامها، في بدايات القرن الماضي، ولم تلبث بعد ذلك أن انفرط عقدها، وانتهى أمرها على نحو بات معروفاً الآن للجميع بما فيه الكفاية. لقد أصبحت الآن، دمقرطة وإصلاح الدول العربية من وجهة نظر البعض، "مسألة شرقية" جديدة، وشأناً دولياً قبل أن يكون عربياً، لضرورات كثيرة. هكذا يفهم هؤلاء سياق الدعوة الأميركية، التي أخذت صيغاً عديدة في الفترة الأخيرة، ولكن قلَّ من يتعرضون لمطالب الإصلاح والديمقراطية كشأن تنموي داخلي. وأقل منهم أولئك الذين يفطنون لطبيعة الطرف الرابح من أي تقدم قد يحصل في بنية العلاقات والمؤسسات السياسية في الدول العربية. إنه الشعوب العربية أولاً وأخيراً، ومشروعات التحديث التي ستنعم بنتائجها هي وليس أميركا.
ولذا فإن محاولات الأميركيين تقديم أنفسهم كمروِّجي ديمقراطية في المنطقة العربية، حتى لو كانوا جادِّين فيما يقولون، هي على الأقل نوع من "الاختطاف" لقضية أصحابها الشرعيون موجودون، والمستفيدون في النهاية منها حاضرون، وهم الشعوب العربية أولاً وأخيراً.