تظل دراسة التجمعات البشرية وتلمّس نقاط الاتفاق والافتراق بينها مبحثاً أساسياً في الدراسات التي تعتمد على علوم الاجتماع والسياسة والاقتصاد وغيرها.
النظر إلى هذه التجمعات البشرية والجماعات الإنسانية تتحكم فيه كثيراً زاوية النظر والغاية المرجوة من ذلك النظر والبحث والرصد والتأمل، وخير ما يوضح الفكرة هو المثال، فمثلا حين نأتي لتصنيف البشر بشكل عام فإننا نبدأ بنظرة للإنسان من حيث هو إنسان ومحاولة إيجاد خواصّ تميّزه عن غيره من المخلوقات، فما يميزه عن الملائكة والشياطين هو أنه محسوس ومشاهد، وما يميزه عن الحيوانات هو أنه عاقل أو ناطق على خلاف بين الفلاسفة، وما يميزه عن الجمادات أنه متحرك متغيّر وهكذا.
وحين نأتي للإنسان نفسه فإن النظرة إليه باعتبار الزمن تمنحه صفات تميزه في كل حقبة تاريخية عن غيرها من الحقب، فالإنسان البدائي ليس هو نفس الإنسان الحديث، أما النظرة إليه باعتبار المكان فإن إنسان الصين يختلف عن إنسان أفريقيا وإنسان أوروبا يختلف عن إنسان الهند، فثمة فروقات في الشكل واللغة والثقافة والمواصفات الجسدية تفرّقه عن الآخرين.
وحتى ندخل أكثر في تفاصيل الصورة نقول إن "الإنسان العربي" كمصطلح عام ينطوي تحته كثير من الاختلافات في التعريف والتصور، فالإنسان الخليجي ليس هو الإنسان اللبناني والإنسان المصري ليس هو الإنسان المغربي وهكذا فلدى كل شريحة ما يميزها عن غيرها وعند كل شعب ما يجعله مختلفاً عن غيره مع الإقرار بوجود مشتركات كبرى سمحت بوصف الإنسان العربي بهذا الوصف.
وحين نقرّب الصورة أكبر نجد أن الإنسان الخليجي يختلف كذلك بين دولة وأخرى، وبين موقع جغرافي وآخر، بل إننا نجد الفروق واضحة داخل البلد الواحد وذلك باختلاف مناطقه، وبفرض اتحاد المنطقة فإن القبيلة الواحدة في المنطقة الواحدة توجد بينها فروقات يعرفها المقرّبون من هذه القبيلة، وكذلك الأسرة والعائلة وصولا للرجل الواحد الذي نجد دائما ما يميزه عن إخوته ووالديه وأبنائه والمقرّبين منه.
هذه الطريقة في التفكير التي تتجه من الكلي إلى الجزئي تقابلها طريقة أخرى تنطلق في الاتجاه المعاكس فتتجه من الجزئي إلى الكلّي، وعكس المثال السابق يوضح الفكرة.
"شباب الصحوة" مصطلح يعبّر به عن شريحة من الشباب الذي خضع لأيديولوجية معينة في حقبة زمنية معينة وانخرط بوعي أو بدون وعي في خطاب متكامل له جوانبه السياسية والدينية والاقتصادية والإعلامية وغيرها، خطاب يجعل التديّن مركزا للحركة والنظر والحكم، ويمركز في هذا التدين مجموعة من الصفات المميزة للشاب المنخرط فيه الخاضع لخطابه، وقد أصبحت هذه الصفات أشبه ما تكون بالشعارات الحزبية، كمثل إعفاء اللحية وعدم الأخذ منها مطلقا ومثل تقصير الثياب تقصيرا بيّنا، وتحريم الغناء بكافة أشكاله وآلاته، وعدم لبس العقال في منطقة الخليج ونحو ذلك من الصفات الجزئية الفرعية التي بعضها محل خلافات فقهية طويلة تراثياً وبعضها عادات اجتماعية يراد بها -كما تقدّم- إيجاد شعار لتمييز فئة معينة عن بقية المجتمع.
ومن داخل "شباب الصحوة" المتديّن المحزّب كثير منه دون أن يشعر، خرجت شريحة جديدة تتمايز داخل هذا الطيف المجتمعي عن غيرها بعدد من الصفات الخاصّة وأطلق على هذه الشريحة إبّان خروجها في بداية الثمانينيات لقب "شباب الجهاد"، مع الإقرار بوجود مشتركات كبرى بين "شباب الصحوة" و "شباب الجهاد".
كان "شباب الصحوة" يتشددون في حلق اللحى تحت أي ظرف وكان "شباب الجهاد" يتساهلون في ذلك، كان "شباب الصحوة" أو شرائح كبرى منهم يحرمون التصوير للذكرى أو للدعوة وكان "شباب الجهاد" يتداولون أشرطة فيديو للعمليات الجهادية وصورا لقادة الجهاد. كان "شباب الصحوة" منظّمين محزّبين مرتبطين في كل تصرّفاتهم بمرجعية عليا تتحكم في تفكيرهم وحركتهم وموقفهم، ولا يكادون يخطون خطوة إلا بإذن من طلاّب العلم الموالين لهم، وكان "شباب الجهاد" يسخرون بطلب العلم وطلبة العلم الذين يتركون الأمة تنتهك وهم عاكفون على الكتب الصفراء!.
من الطبيعي حين تجلس في مجالس "شباب الجهاد" أن تكتشف بسهولة ضعف تحصيلهم العلمي، وانشغالهم الشديد بمسائل أحكام الجهاد، والتفريق بين "جهاد الطلب" و "جهاد الدفع"، والتأكيد على أن "جهاد الدفع" لا يشترط له إذن والد ولا إمام ولا راية ولا غيرها من شروط الجهاد المعروفة فقهياً، ويكررون ذلك ويقلِقون راحة الدروس والمحاضرات العلمية في المساجد بكثرة أسئلتهم عن ذلك وتطويقهم للعلماء والدعاة للإقرار بموقفهم الفقهي هذا، لأنهم يعتبرون الواجب على الأمة كلها اليوم هو "جهاد دفع" يجب أن تنفر إليه وربما غالى بعضهم فاعتبر ذلك واجبا منذ سقوط الأندلس.
كما أن مجالس "شباب الجهاد" وتنظيرات رموزهم وخطب قادتهم لا تنفك تزري بطلبة العلم وتقلل من شأنهم، وتسخر بـ"شباب الصحوة" المائع المخدوع، فكثير من "شباب الجهاد" بعد أن يصبح كذلك لا يعبأ بدروس العلماء، ولا يقيم شأنا لشكليات الصحوة، ولا يرفع بمسائل الصحوة الشخصية رأسا، بل