في تونس, حيث ولد ابن خلدون, التقى في "بيت حكمتها" العريق والتقليدي والمطل على البحر المتوسط عشرات من المفكرين والمثقفين من على ضفتي البحر إحياء للذكرى المئوية السادسة لرحيل المفكر وفيلسوف علم الاجتماع الكبير. وفي أشبيلية, حيث تنحدر عائلته, وفي الأشهر القادمة, سيلتقي عشرات آخرون ليناقشوا الإرث الخلدوني الذي انداح إلى الأندلس ومنها إلى أوروبا ليشكل أساً من الأسس التي اكتشفها التنوير الأوروبي فيما لحق من قرون. وفي المغرب, حيث درس ابن خلدون في جامع القرويين, ثمة إحياء آخر واحتفاء لا يقل عنه اهتمام مصر بالخلدونية التي انتهت بصاحبها هناك قاضياً ومتأملاً فيما أنتجه عبر مسيرة حياة طويلة حافلة بالسياسة والفكر والاجتماع, توجها بكتابة "المقدمة" وهو في أواسط الأربعينات من عمره.
لا تحتاج عبقرية ابن خلدون المبكرة وانتباهه الفريد لمسألة علم التاريخ وإعادة تشكيله, وتأسيس علم العمران البشري إلى إعادة توكيد, أو شهادة متأخرة. فما وضعه العلامة الكبير في مقدمته العميقة أذهل كثيرين, ودفع بمؤرخ من وزن آرنولد توينبي إلى أن يصفه بكونه أعظم عقل عرفته البشرية. وحينما رقى علم التاريخ وأسس لرؤية جديدة للنظر فيه, وبه, تعتمد على التمحيص والتنقيب ومقاربة الحوادث والمقولات استناداً إلى العقل والمعقولية والقياس, ونقض التواتر الشفاهي الخطابي الطافح بالخيال والتضخيم والمرويات السقيمة, فإنه فعل ذلك من منظور علم الاجتماع أيضاً. وهنا كشف عن قوانين الخلدونية المهمة التي ترى في تتابع التاريخ وصيرورته وكتابته فعلا بشريا ينقل أفعالاً ومصالح ومطامح وصراعات مجتمعية وسياسية, ولا يخضع لمنطق الأيديولوجيات إلا بمقدار توظيفها في مآرب السياسات الكبرى. ولأن ابن خلدون عاش في بيئات صراعية حادة, من تونس, إلى الجزائر, إلى الأندلس, إلى المغرب, إلى مصر, وتسنم مناصب سياسية من الحجابة إلى السفارة إلى القضاء, واكتوى بتنافسات الحكام والولاة وشهد تحطم المبادئ على بلاط الأمراء, فقد صاغ نظريته بناء على واقعية صرفة تكاد في بعض جوانبها تحايث واقعية ميكافيللي الشهيرة, وهي بالتأكيد هوبزوية (نسبة إلى توماس هوبز المفكر الإنجليزي مؤسس الواقعية السياسية) مبكرة في فضاء التنظير العربي والإسلامي للتسيس والحكم وأنماط الاجتماع. وتأثراً بتلك الواقعية وتأسيساً لها اضطربت علاقته بالفلسفة التي لم تشبع غائيتها إلحاح السياسة على ذهن ابن خلدون.
بيد أن العودة المتكررة لابن خلدون, على ما فيها من إجلال واحتفاء لا تنكر مشروعيتهما, قد تنطوي على تحييد للنظر بعين ناقدة للإرث الخلدوني, ومساءلة راهنيته ومدى عصريته. فالعادة المشتهرة في تبجيل إرث المفكرين العظام تظلمهم في العديد من الأحيان بفرض عصرانية على فكرهم, هم أنفسهم لم يزعموها, خاصة وقد اختلفت السياقات والأزمنة والتواريخ. وتبجيل ابن خلدون يخرج عن حد النظر النقدي إلى درجة اعتبار ما تركه خارقاً للسياقات والتواريخ, ومنطبقاً على عصرنا ودولنا واجتماعنا السياسي, وهنا مكمن القلق. فلئن كان مطلوباً إحياء الفكر الخلدوني (وكذا الرشدي والشاطبي) مقابل الفكر الأشعري والغزالي، فإن ما هو غير مطلوب هو الافتراض بأن ذلك الفكر جامع للأسئلة الكبرى ويقدم لنا الآن قاموساً بالحلول لها. باختصار, الإرث الخلدوني نافع ومفيد للبناء عليه, وليس لتطبيقه والتوقف عنده فحسب.
فمثلاً, لا يمكننا الآن التسليم بنظرية العصبية واعتبارها محور حركة التاريخ, وهي النظرية التي وصف بها ابن خلدون انتقال الحكم من مجموعة إلى مجموعة, حيث تظفر به المجموعة الأقوى والأكثر غلبه, وتقوم, بالطبع والتطبع, بقمع المجموعات والعصبيات الأخرى. فتلك النظرية قائمة قلباً وقالباً على الإثنيات والعصبيات, وكل ما كان في ذهن ابن خلدون عندما صاغها هو اصطراع العشائر والعوائل الكبرى. واستدعاء نظريته في الحكم واعتبارها الناظم لسياسة وحكم اليوم هو في واقعنا العربي الآن تبرير للاستبداد الذي نحياه في أكثر من بلد عربي. ولهذا فإن اعتزاز النخب الرسمية العربية بالفكر الخلدوني, وخاصة نظرية العصبية, هو اعتزاز مشبوه النيات, ويقدم بطريقة غير مباشرة كمسوغ للإقرار بالأمر الواقع. ولئن دافع البعض بالقول إن ابن خلدون لم يكن يقدم وصفة للحكم عندما وضع يده على فكرة العصبية, بقدر ما كان يصف صيرورة التاريخ العربي, فإن واقع توظيف نظرية ابن خلدون يمحو الفارق بين الوصف والتحليل والمطالبة بنوع وشكل الحكم. واقع اليوم, عالمياً وعربياً, يقول بأن "العصبيات" انتقلت إلى الأحزاب والأفكار والبرامج السياسية, وإن طبيعة الصراع السياسي تجاوزت فكرة أن تقضي العصبية (الحزب هنا) على بقية العصبيات بالعنف والقوة مستندة إلى أحقيتها في الحكم. نحن الآن أمام أشكال تعددية في الحكم, وديمقراطية في انتقال الحكم, وسلمية في التنافس, وهذا ما يجب أن يكون جمَّاع همِّنا.
كما أن عددا من استطرادات ابن خلدون في مجالات مختلفة لم يعد بالإمكان قبولها ودمجها في الاجتماع السياسي المت