في بعض الدول الغربية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، نجحت الأمراض السرطانية في إزاحة أمراض القلب والشرايين واحتلال مكانها، على رأس قائمة الأمراض المتسببة في أكبر عدد من الوفيات، لتصبح بذلك الأمراض السرطانية القاتل الأول على الإطلاق في تلك الدول. وفي الدول النامية التي تنخفض فيها معدلات الإصابة بالأمراض السرطانية بشكل واضح عن مثيلتها الغربية، يعزو البعض هذا التباين إلى أن الكثير من سكان الدول النامية يلقون حتفهم في سنوات مبكرة بسبب الأمراض المعدية أو الإصابات والحوادث. ويتوقع هؤلاء أنه مع زيادة فعالية برامج مكافحة الملاريا والسل في الدول النامية، سترتفع معدلات الإصابة بالأمراض السرطانية، لتحتل أيضا موقعا متقدما على قائمة الأمراض المتسببة في أكبر عدد من الوفيات بين شعوب تلك الدول. وهو ما يعني أن الأمراض السرطانية تقتل سنويا أعدادا هائلة من أفراد الجنس البشري، الأغنياء والفقراء، القاطنين للشمال وللجنوب، وللشرق أو الغرب. وتختلف وتتنوع الأسباب المؤدية بشكل مباشر وغير مباشر للإصابة بالأمراض السرطانية، مثل التدخين، والتلوث البيئي، والتقدم في السن، والتعرض للإشعاع، وتلوث الأطعمة والأغذية، وغيرها. وضمن هذه القائمة الطويلة من مسببات السرطان، يلقى باللوم على العدوى بأنواع خاصة من الفيروسات، كسبب مباشر للإصابة بالسرطان في 10% من الحالات في العالم الغربي، و25% من الإصابات في دول العالم النامي. وهو ما يمكن ترجمته إلى أكثر من 1.8 مليون حالة إصابة بالسرطان حول العالم سنويا، ناتجة جراء العدوى بحفنة من الفيروسات، مثل سرطان عنق الرحم، وسرطان المعدة، وسرطان الكبد، وسرطان الأنف والحلقوم، وسرطان الدم في شكل الليمفوما أو اللوكيميا. كل أنواع السرطان تلك تنتج في الكثير من الحالات بسبب العدوى الفيروسية، حيث تشير التقديرات إلى أن 18% من جميع حالات الإصابة الجديدة بالسرطان، مرتبطة بشكل ما بعدوى فيروسية. وإن كان هذا لا يعني أن العدوى بأحد تلك الفيروسات تعني الإصابة الحتمية بالسرطان، بل العكس هو الصحيح. فمن بين جميع الحالات التي تصاب بعدوى فيروسية، لا تحدث الإصابة بالسرطان إلا في النزر القليل. ولا يعني أيضا هذا أن الإصابة بأي نوع من الفيروسات ستؤدي للإصابة حتما بالسرطان.
وربما كان أفضل مثال لتوضيح العلاقة بين السرطانات والفيروسات والتطعيمات، هو مثال سرطان عنق الرحم. حيث يحتل سرطان عنق الرحم المركز الثاني -بعد سرطان الثدي- على قائمة الأمراض السرطانية الأكثر انتشاراً بين النساء، والمرتبة الثالثة بعد سرطان الثدي وسرطان الرئة، على قائمة أكثر الأمراض السرطانية قتلا للنساء. فالتقديرات والإحصائيات الدولية تشير إلى أن سرطان عنق الرحم يقتل أكثر من ربع مليون امرأة سنوياً. وخلال العقود القليلة الماضية لاحظ الأطباء أن معدلات انتشار سرطان عنق الرحم، قد شهدت تزايداً مطرداً في العقود القليلة الماضية. ففي بريطانيا مثلا، تضاعفت الوفيات من جراء الإصابة بسرطان عنق الرحم ثلاثة أضعاف كاملة خلال عشرين عاماً فقط، بين منتصف عقد الستينيات ومنتصف عقد الثمانينيات. وارتبطت هذه الزيادة بملاحظة علمية أخرى، هي انتشار سرطان الرحم بمعدلات مرتفعة جداً بين بائعات الهوى، وفي نفس الوقت انخفاضه بشكل واضح، وأحيانا انعدامه التام بين العذارى من الراهبات. نتيجة هذه الملاحظات جميعها، هي تصنيف سرطان عنق الرحم من قبل الجهات العلمية، مثل الجمعية الأميركية للسرطان، على أنه مرض جنسي، ينتج عن عدوى فيروسية. فغالبية النساء اللواتي يصبن بسرطان عنق الرحم، غالبا ما يكن قد أصبن سابقاً بفيروس الثآليل الجنسية (HPV). وإن كان هذا لا يعني أن كل امرأة مصابة بفيروس الثآليل الجنسية، ستصاب حتما بسرطان عنق الرحم. ففي الوقت الذي تبلغ فيه معدلات الإصابة بفيروس الثآليل الجنسية بين النساء الغربيات ثمانين في المئة، نجد أن معدلات الإصابة بسرطان عنق الرحم لا تزيد على واحد في المئة بينهن.
ولكن إذا كان الطب الحديث قد نجح خلال قرابة قرنين من الزمان أو أكثر، في استخدام التطعيمات للوقاية ضد الأمراض المعدية، أليس من المنطقي استخدام التطعيمات أيضا ضد الأمراض الفيروسية المعروف عنها علاقتها بالأمراض السرطانية، كوسيلة غير مباشرة للوقاية. هذا المنطق بالتحديد هو ما يحاول عملاقان من عملاقة صناعة التطعيمات تطبيقه، من خلال التطعيم المعروف باسم "جارداسيل"، والموجه ضد فيروس الثآليل الجنسية، المرتبط بسرطان عنق الرحم. هذا التطعيم تواترت الأنباء في بداية شهر أكتوبر الماضي عن احتمال توفره بشكل تجاري خلال العام الحالي. وفي نفس الوقت يحاول عملاق آخر في صناعة اللقاحات الطبية تطوير تطعيم مماثل، تحت اسم "سيرفا- ريكس". ولكن يعيب هذين التطعيمين، أو أي تطعيم آخر سيوجه ضد فيروس الثآليل الجنسية، ضرورة تعاطيه قبل حدوث العدوى. وبالنظر إلى السن المبكرة التي تبدأ فيها الفتيات في العالم الغربي نشاطهن الجنسي، يوصي البعض بأن يتم تعاطي التطعيم بين سن ال