لقد تراكمت طبقة صلبة سميكة من الجليد ما بين واشنطن وطهران, على امتداد ما يربو على ربع قرن من الزمان, ولكن هاهما الآن تقرران كسرها وإذابتها. وتعد هذه هي المرة الأولى التي تتفق فيها حكومتا البلدين على إجراء حوار مباشر بينهما, منذ اندلاع الثورة الإسلامية في إيران في عام 1979, وما أعقبها من احتجاز للرهائن الدبلوماسيين الأميركيين في طهران, دام لمدة 444 يوماً. وبما أن الحوار بحد ذاته يمثل شكلاً من أشكال الاعتراف المتبادل بالآخر من قبل الطرفين, فإنه لا مناص من النظر إليه باعتباره طفرة كبيرة في العلاقات بين البلدين. وكانت ثمة اتصالات غير مباشرة تجري بين واشنطن وطهران خلال الفترة الماضية, غالباً ما يتولاها وسطاء عديدون, لاسيما حينما قررت واشنطن تدمير ألد أعداء إيران: حركة "طالبان" الأفغانية ونظام صدام حسين العراقي. وكان في اعتقاد بعض المراقبين أن أميركا وبإسدائها كل تلك الخدمة الجليلة الكبيرة لطهران, إنما مهدت الطريق أمام التوصل إلى مصالحة من شأنها إزالة الجفوة فيما بينهما. غير أن الفصل لم يكن مناسباً لنضوج العنب وجني الثمار.
ولكن لم يطل الانتظار كثيراً كي يطرأ عاملان أخيران قربا الشقة والمسافة ما بين الطرفين, ودفعا بهما إلى نقطة أبديا فيها استعدادهما للجلوس إلى بعضهما بعضاً على الأقل. والمعلوم أن الولايات المتحدة منشغلة من رأسها وحتى أخمص قدميها بحربها على العراق, بينما تواجه طهران محنة عزلة دولية, وضغوطاً متصاعدة عليها بسبب برنامجها النووي. لذا فما أشد حاجة كليهما لبعض الراحة والتقاط الأنفاس. وقد بلغ تدهور الأوضاع في العراق, حداً بات يهدد فيه ولاية بوش الرئاسية الثانية, بل والمستقبل الانتخابي لحزبه الجمهوري كله. وبسبب الحرب على العراق, أكثر من أي عامل آخر, انخفضت شعبية بوش لتصل إلى أدنى مستوياتها 33 في المئة فحسب. وليس هناك من هاجس ولا أولوية أميركية اليوم, تفوق تهدئة الوضع الأمني واستقراره في العراق, بما يحول دون اندلاع حرب أهلية شاملة فيه.
لذلك وعلى رغم تلكئها وترددها, توصلت واشنطن مؤخراً جداً إلى حقيقة أنه لا سبيل لعزل الدول المجاورة للعراق عما يجري هناك, وأنه لابد من التشاور معها. وفي تطور صاعق ومدهش للموقف الأميركي, أعلن زلماي خليل زاد السفير الأميركي في بغداد, استعداد بلاده للحوار مع كافة جيران العراق, بما في ذلك إيران. جاء هذا خلال لقاء صحفي أجرته معه صحيفة "لوموند" الفرنسية الأسبوع الماضي. وفيما لو أخذ هذا التصريح على محمل الجد, فإنه يعني استعداد واشنطن للحوار مع سوريا كذلك حول العراق, مما يشير إلى طفرة أخرى جديدة في العلاقة الصِّدامية القائمة الآن بين دمشق وواشنطن.
وكما سبق القول فإن إيران تواجه ضغوطاً دولية متصاعدة عليها بسبب برامجها النووية, علماً بإمكانية وصول هذه الضغوط إلى حد يهدد بفرض عقوبات دولية عليها من قبل مجلس الأمن الدولي, أو حتى بتوجيه ضربة عسكرية لها, في حال "سلكت" الطريق أمام صقور واشنطن وتل أبيب, وتوفرت لهم الأجواء والفرص. ومما لاشك أن ذلك سيكون كارثة ليس على طهران وحدها, بل على الولايات المتحدة الأميركية, والمنطقة بأسرها إن حدث. ويكفي المنطقة ما هي فيه من بلبلة واضطرابات ومحن.
ويشير كل هذا إلى وجود أرضية مشتركة لإبرام صفقة بين الجانبين, من الناحية النظرية على الأقل. والمعني بهذا, أن في وسع إيران استخدام نفوذها في إطفاء اللهب والنيران العراقية المستعرة, وإقناع المسلمين الشيعة بإفساح المجال أمام السنّة في تشكيل الحكومة العراقية الجديدة. وفي المقابل تسمح واشنطن لإيران بالمضي قدماً في إجراء أبحاث ودراسات محدودة النطاق, على برامج تخصيب اليورانيوم, شريطة خضوع هذه البرامج والدراسات للرقابة الصارمة من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية, ضماناً لعدم انتهائها إلى تصنيع القنبلة الذرية.
ومن شأن صيغة كهذه, أن تحفظ ماء وجه كل من واشنطن وطهران, وتجنبهما حدة المواجهات السافرة فيما بينهما. بيد أن التوصل إلى تسوية كهذه, ليس بالأمر السهل مطلقاً. والسبب أن كليهما تحول بينه والآخر جبال شاهقة شماء من الشكوك والعداء، وقد تطبعا على التراشق والتلاسن المفتوح أمام المجتمع الدولي كله. ثم إن الولايات المتحدة لا تزال ذاك "الشيطان الأكبر" في عيون الكثير من الإيرانيين, في حين تصف واشنطن طهران بأنها "بنك الإرهاب" علاوة على نعتها علناً بأنها تمثل أكبر تحد للمصالح والسياسات الأميركية في منطقة الشرق الأوسط. وبالنسبة لإيران, تدعي أن الحصول على الخبرة النووية المستخدمة للأغراض السلمية, باتت هدفاً قومياً. غير أن الولايات المتحدة الأميركية تظل على التزامها الثابت –حسبما جاء في كلمات الرئيس بوش في آخر تقرير عن استراتيجية الأمن القومي, نشر في السادس عشر من شهر مارس الجاري- بإبعاد الأسلحة الدولية الأشد خطراً, عن أيدي الأفراد الأشد خطراً على الإطلاق. وبموجب ذلك الالتزام, فإن واشنطن تزعم لنفسها حقاً بتوجيه ضربات عسكرية استباقية, لأ