من عجائب الأقدار أن يأتي اليوم الذي تشعر فيه الإمبراطورية الأميركية العظمى بأن أقرب حلفائها يهدد أمنها ويسعى إلى احتلالها، والأشد غرابة من هذا أن المواطن الأميركي قد صدق ذلك، بل إن النخبة السياسية الأميركية انقسمت على نفسها بين من يدافع عن الغزو القادم من إمارة دبي لاحتلال الإمبراطورية ويجد له المبررات، ومن يقف ضده ويهدد باستخدام الأسلحة الاستراتيجية كافة التي تملكها الإمبراطورية لردع دبي عن غيها وأهدافها، ولكن أحداً لم يتوقف ليسأل نفسه أو حتى غيره عن حقيقة هذا التهديد وواقعيته؟ بعد أن أصبح الشعور بالأمن والأمان أرق وهاجس كل أميركي يستغله من يريد وقت ما يريد دون أي منطق أو حجة، بعد أن جرى إلغاء "الفكر" في كل قضايا "الأمن" الأميركي.
قامت وسائل الإعلام الأميركية ولم تقعد للتنبيه من الخطر المسلح القادم من دولة الإمارات العربية المتحدة، وقام أعضاء الكونجرس جميعهم بحزبيه الكبيرين المسيطرين عليه من "جمهوريين وديمقراطيين" بالتنافس حول الإجراءات الواجب اتخاذها لردع هذا الخطر الاستعماري الذي تواجهه الإمبراطورية العظمى، ووقف البيت الأبيض برئاسة بوش الصغير وزمرته ليطمئنوا المواطن الأميركي ويدافعوا عن مستثمري الإمارات الطيبين المسالمين الذين لا يحتاجون إلى أي شهادة لإثبات حسن نواياهم وعدم تهديدهم لأية جهة في العالم؛ بل إن سياستهم الخارجية عبر أكثر من ثلاثة عقود خير شاهد على العقلانية والتوجه الإنساني والمرتكزات الأخلاقية في التعامل مع العالم بأسره منذ أن وضع أسسها وسلوكياتها حكيم العرب الشيخ زايد رحمه الله.
لم يكن أمر صفقة "مواني دبي العالمية" يحتاج إلى هذه الضجة كلها وهذا النقاش والصراخ السياسي وتبادل الاتهامات داخل أروقة مجلس الشيوخ والإدارة الأميركية وبين وسائل إعلامها بشكل غير مسبوق، بعد أن ظلت أخبار وإجراءات إتمام الصفقة والتنافس عليها بين الشركات العالمية تتداولها الصحافة العالمية لمدة تزيد على العام حتى رست على "موانىء دبي العالمية".
إذن للموضوع دلالات وجوانب كثيرة أخرى سنحاول أن نبحثها بصورة مجردة من وجهة النظر الاستراتيجية دون الخوض في مهاترات الوقوف "مع" أو "ضد" إتمام الصفقة أو قرار التخلص منها، لأن الأمر كما نراه له أبعاد أخرى سياسية وعدائية وسيكولوجية وليس له أية علاقة بما جرى الإعلان عنه... فما خفي هو الأهم.
من المعروف أن لأية صفقة في العالم أبعاداً عدة من أهمها: الأبعاد الاقتصادية أو التجارية، والأمنية، والسياسية، ولكن في صفقة "موانىء دبي العالمية" هذه لم يكن هناك سوى بُعد واحد... وهو نية المشتري في "الاستثمار البريء" في دولة صديقة؛ أي أن للصفقة بُعداً اقتصادياً وتجارياً واضحاً تماماً، ومن المعروف والمسلم به في العالم بأسره أن مسؤولية حماية أمن الموانىء وحراستها تقوم بها الدولة الأم ولا يمكن التنازل عن هذه المسؤولية، فضلاً عن أن القواعد المنظمة للتعامل التجاري في هذه الموانىء، من ناحية الرسوم والجمارك، تظل في أيدي وزارة الاقتصاد والتجارة لهذه الدولة، لذلك ما يبقى هو الخدمات التي تقدمها هذه الموانىء فقط، من أعمال شحن وتفريغ وتوفير المواد الغذائية والإمداد بالوقود والمياه وغيرها لمستخدمي الميناء تحت إمرة إدارة هذا الميناء وهي أمور تحتاج إلى وظائف لا حصر لها لمواطني ومقيمي الدولة الأم.
هذا كله يشير بوضوح كافٍ أنه لا مجال للحديث عن وجود أي تهديد أمني أو اختراق لنظم دفاعية أو غزو خارجي تقوم به "موانىء دبي العالمية" في صفقتها، وهنا يكون السؤال الذي يفرض نفسه... إذن ما هي حقيقة القضية؟
يتلخص الرد على هذا التساؤل في أبعاد عدة من أهمها:
- كره الأميركيين للنجاح العربي في الحصول على صفقة عالمية أميركية، وأن يتجرأ العرب على الاستثمار على أرضها.
- إنكار أميركي لوجود أي جنس آخر على وجه الأرض يستطيع أن يدير أنشطة أميركية بتحضر وتفوق أكثر منهم.
- عدم الاعتراف بوجود أية شراكة مع الدول العربية، والمطلوب هو إذعان مستمر ومسلّم به للاستعلاء الأميركي الذي لا تستطيع أية دولة عربية أن ترفض له أمرا.
- العربي غير مسموح له بالوجود على الأرض الأميركية، وليس له حق في الحياة خارج أرضه.
- نجاح الصهيونية و"المحافظين الجدد" في تأكيد الثقة الأميركية المفقودة في العلاقات الاقتصادية مع العرب.
- إن النظرة الأميركية للعرب كإرهابيين لم تتغير، وربما لن تتغير، وعلى المتضرر أن يعود أدراجه بعيداً عن حدود الإمبراطورية.
- إن فتح أبواب الاستثمار العربية على مصراعيها في وجه المستثمرين الأميركيين لا يعني بأي حال السماح للمستثمرين العرب في المعاملة بالمثل، بل يجب ألا يتجاسر أحد منهم على فعل ذلك.
- إن السياسة هي التي تحكم الاستثمار في أميركا، وليس الاقتصاد أو التجارة أو الأمن.
- التأكيد على أن السلطة في الولايات المتحدة لا ينفرد بها بوش الصغير وزمرته.
- إن التربص الأميركي طوال فترات إجراءات إتمام صفقة الموانئ كان بهدف التحضير لإثارة ضجة تعبر عن مدى ما