الدنيا لن تطير، ولن يطير إنسان إلا إذا كان من جماعة ابن فرناس، إذن، لم تستعجل المجموعات السياسية في البلاد العربية على رفع قوانين الطوارئ وإلغاء تقييد الحريات السياسية واختيار اللحظات الحرجة للمطالبة والاعتصام ورفع اللافتات؟ في أكثر من دولة عربية، كلما طالب الناس بحقوقهم، تساءل بعضهم عن سبب اختيار هذه اللحظة بالذات مطالبين هؤلاء بالتحلي بقدر من المسؤولية في هذه المرحلة الحرجة. والحق معهم، فالوقت غير مناسب: العراق مضطرب، سوريا وحيدة، لبنان مجهول المصير، السودان قد يفقد جزءا منه، الأصولية انتقلت من طرق الباب إلى دكّه...الخ، عموماً الوقت لم يكن مناسباً أبداً.
فقبل سنة إلا شهراً كان الانسحاب السوري، وقبل سنة وشهر اغتيل الحريري، وقبل سنة ونصف صدر القرار الأممي رقم 1559، وقبل 3 سنوات إلا شهراً سقطت بغداد. حقاً إن السنوات الثلاث الأخيرة لم تكن سنوات لافتات. أما قبل 4 سنوات، فأحداث 11 سبتمبر، وقبل 5 سنوات اندلعت انتفاضة الأقصى، وقبلها بـ 3 أشهر رحل حافظ الأسد، وقبله بشهر تحرر جنوب لبنان. وكانت لحظات مفصلية تحتاج إلى قدر كبير من التحلي بالمسؤولية.
وقبل 14 سنة بدأت مؤتمرات السلام، وقبلها بسنة انشغل العالم بابنة خالة أمّ المعارك، وقبلها بشهرين وضعت الحرب الأهلية في لبنان أوزارها، وقبلها بـ 4 أشهر غزا صدام الكويت. وفي الأعوام ذاتها، تفتت الاتحاد السوفييتي، وتوقفت الحرب العراقية- الإيرانية، وانتفض أطفال فلسطين. فبالله عليكم، هل هذه أوقات الملفات الداخلية الصغيرة؟
وقبل 24 سنة اجتيحت بيروت، وقبل 3 سنوات من هذا، ثار الإيرانيون بقيادة الخميني، وقبله بـ 3 سنوات أُحتل جنوب لبنان، وقبل هذا بـ 5 سنوات وقعت حرب أكتوبر، وقبلها بـ 3 سنوات توفى جمال عبد الناصر، وقبلها بـ 3سنوات كانت نكسة 1967. ومعروف أن لا صوت يعلو فوق صوت البندقية. أما قبل 43 سنة بالضبط، فثورة مارس في سوريا، وقبلها بخمس سنوات قامت الجمهورية العربية المتحدة، وقبله بسنتين كان العدوان الثلاثي. وهذه سنوات مقطعية لم يكن من المناسب الحديث فيها كثيراً.
وقبل 57 سنة، ولمدة 5 سنوات، فترة الانقلابات السورية، وكان خلالها الضباط الأحرار في مصر يطيحون بالنظام الملكي، وفي الأعوام نفسها كانت النكبة وإعلان قيام إسرائيل. فعلاً هي سنوات حرجة. أما قبل 88 عاما فوعد بلفور، وقبله بسنتين، انطلقت الثورة العربية الكبرى ضد العثمانيين وعُلقت المشانق لعشرات الزعماء الوطنيين. وهذه سنوات دم ونضال وكفاح.
وقبل 490 سنة، سقطت الشام في يد الأتراك، وقبل 745 عاما معركة عين جالوت وخلاص الشام من أيدي المغول. وقبل 818 سنة معركة حطين مع الصليبيين. أما قبل 1320 عاما فمذبحة كربلاء وتوابعها. وقبلها بنصف قرن معركة اليرموك وفتح الشام. ولم يكن هذا عصر الاعتصامات السلمية. وقبل 2070 سنة سقطت دمشق بأيدي الرومان وقبله بقرنين جاء الإسكندر المقدوني. وهذان الحدثان وقعا قبل الميلاد ولم يكن للمجموعات السياسية أي وجود. أما العام 20 هـ . ب أي بعد هبوط آدم عليه السلام، فكان مقتل هابيل على يد قابيل، ولم يكن الوقت ملائماً أبداً لمطالبات من أي نوع. ولم يتبق سوى يوم الهبوط الآدمي، وكان يوماً حرجاً للغاية والظرف استثنائياً.