انظر حواليك ماذا ترى؟ شاشة جهاز كمبيوتر, وهذه الصفحة المطبوعة أمامك, ثم قلماً ثم القميص الذي ترتديه. وما أكثر احتمالات احتواء كل واحد من هذه الأشياء على مستخرجات النفط. والواقع أن المنتجات القائمة على مخلفات النفط, تكاد تشمل كل شيء تقريباً, من أحمر الشفاه وحتى المنظفات المستخدمة في ماكينات غسيل الملابس, بل من الملابس ذاتها وحتى أجهزة الكمبيوتر وقطع الشوكولاتة, وصولاً إلى الأسمدة والمركبات الدوائية. وفي دولة مثل الولايات المتحدة الأميركية, حققت الاستخدامات النفطية في الأغراض الأخرى غير ذات الصلة بالوقود, ما يزيد على نسبة 5 في المئة من إجمالي استهلاك النفط خلال العام الماضي, وفقاً للمعلومات الواردة من وزارة الطاقة. وربما لا تبدو نسبة 5 في المئة هذه, نسبة كبيرة تذكر في عيون البعض, ولكن من يصدق أنها تعادل مليون برميل من النفط يومياً؟!
إن في ذلك ما يكفي لشحذ همة وعزيمة وخيال أجيال جديدة من العلماء والباحثين والأكاديميين والعاملين في مجال الاستثمارات الصناعية, للبحث عن بدائل طبيعية وخالية من السموم للبترول, بحيث تكون قادرة على سد حاجة المستهلك من هذه الصناعات. وقد اتخذت هذه الجهود والتوجهات لنفسها اسم "الكيمياء الخضراء". وعلى حد قول "بول أناستاس" الإداري السابق لدى وكالة حماية البيئة, ومدير "معهد الكيمياء الخضراء" في واشنطن دي.سي. فإن الذي كان يحدث سابقاً في مضمار الحماية البيئية, هو محاولة "تنظيف" المنتجات والمصنوعات الملوثة وتخليصها من الشوائب والسموم العالقة بها. أما هذه المرة, فإن الفكرة التي تعمل من أجلها "الكيمياء الخضراء", هي البدء بصناعة وتصميم منتجات خالية من التلوث البيئي منذ البداية. وتتلخص هذه المساعي في استبدال المكونات المشتقة من البترول, بمكونات طبيعية مستقاة من المواد والمنتجات الزراعية, كالقمح والبطاطا والبيوماس, أو زيوت الأزهار والخضر.
ومن جانبه قال البروفيسور "جون وارنر" مدير برنامج درجة الدكتوراه الوحيد في الولايات المتحدة كلها, في مجال "الكيمياء الخضراء" بجامعة ماساشوستس, إننا بحاجة لابتكار نوع جديد من التكنولوجيا, بحيث تتمكن من تصنيع منتجات طبيعية تماماً, ومماثلة للمنتجات المتوفرة حالياً, القائمة على مشتقات النفط. وذلك هو التحدي الذي تواجهه هذه التكنولوجيا. ويتراوح ويتحدد حجم هذا التحدي بكل واحد من المنتجات النفطية المطلوب نسخها, عن طريق استخدام البدائل والمواد الطبيعية.
وحين يأتي الدور على منتجات أخرى مثل الأصباغ والمنظفات, ومنتجات العناية الشخصية كالغسل والشامبو وغيرها, فقد زارها إلهام الكيمياء الخضراء منذ مدة من الزمن. وعن ذلك يحدثنا "سكوت إيجايد", مدير عام شركة AURO الأميركية لصناعة الأصباغ, عن أن شركته ابتكرت صناعة منتجاتها من الزيوت النباتية الطبيعية منذ بضع سنوات. أما منظفات الأواني المنزلية المصنوعة من مشتقات البترول, فقد بدأت الظهور لأول مرة خلال الحرب العالمية الثانية, على حد قول "مارتن وولف", مدير منتجات وتكنولوجيا البيئة لدى شركة (Seventh Generation) الرائدة في صناعة المنظفات الخالية من المواد البترولية. ومضى وولف قائلاً: إن الدهون الحيوانية والنباتية, قد بدأ استخدامها كأساس لصناعات الصابون والمنظفات منذ بدايات القرن الماضي تقريباً. وقال إن الذي يجري حالياً هو تصنيع المنتجات ذاتها, اعتماداً على المواد الطبيعية, في محاولة من المنتجين الجدد للاقتراب أكثر من الطبيعة ومحاكاتها.
إلى ذلك يبقى التطور الأكثر حداثة في مجال "الكيمياء الخضراء", هو تصنيع بدائل طبيعية للمنتجات البلاستيكية, الأكثر اعتماداً كما هو معروف, على مخلفات النفط ومشتقاته.
وعلى الرغم من أن فكرة تصنيع اللدائن باستخدام المواد النباتية, تعود إلى عقدي الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي, فإن الخطوات الفعلية الجادة لإنتاجها لم تتخذ إلا في عقد التسعينيات. ولذلك تكون اللدائن الطبيعية بالذات, هي المنتج الأكثر ارتباطاً باستمرار جهود البحث العلمي لعدة عقود متتالية, دون انقطاع أو توقف, كما يقول السيد "أناستاس". هذا ولا يزال البحث متواصلاً في سبيل جعل اللدائن الطبيعية البديلة لنظيرتها البلاستيكية, مماثلة لها من حيث الديمومة والقوة والمتانة, بما يجعلها بديلاً فعلياً ومنافساً لها في ذات الوقت. وهذا هو الدور الذي يقوم به البروفيسور جيفري كوتس وزملاؤه الباحثون المختصون في مجال اللدائن الخضراء بجامعة كورنيل في إيتاكا بولاية نيويورك, حيث يعملون على المزج بين بروتينات فول الصويا والألياف الطبيعية –مثل تلك التي توجد عادة في الأناناس- بغية تقوية اللدائن الطبيعية, وإطالة عمرها وجعلها منافساً تجارياً لنظيرتها البلاستيكية.
أما في معمل البروفيسور "وارنر" بجامعة ماساشوستس, فيجري تطبيق وتجريب تكنولوجيا مختلفة نوعاً ما, وذلك بمعالجة اللدائن الطبيعية القائمة على نبات القمح, بالأشعة فوق البنفسجية. والهدف وراء ذلك هو تقوية اللدائن وجعلها أكث