إن أعظم ما أنتجه الغرب من إبداع فكري هو فلسفة "التنوير " أو "الأنوار" والتي بلغت الذروة في القرن الثامن عشر عند فلاسفة التنوير في فرنسا، فولتير وروسو ومونتسكيو وفلاسفة "دائرة المعارف الفلسفية" وكانط في ألمانيا. تسترجع عصر بركليس عند اليونان. وتقوم على أفكار العقل والحرية والمساواة والإخاء، والطبيعة والتقدم. وبفضلها قامت الثورة الفرنسية، والثورة الأميركية، وتجسدت في قوانينها، إعلان الاستقلال، والدستور، وتمثال الحرية، ونظام الحياة الأميركي. كما قامت الثورات الروسية العديدة ضد القيصر على مثل هذه الأفكار التي تبناها المناصرون للثقافة الفرنسية في روسيا. وحاول اليسار الهيجلي في ألمانيا القيام بنفس الثورة عام 1848 إلا أنها فشلت كثورة وبقيت كمثل عليا في الحرية والمساواة.
وقامت النهضة العربية الأولى في القرن التاسع عشر على مُثـُل التنوير التي روّج لها الطهطاوي بعد أن عرفها أثناء وجوده إماما للبعثة التعليمية في باريس خمس سنوات. ورآها تقوم على قاعدة الحسن والقبح العقليين عند المعتزلة القدماء وعلى قاعدة جلب المنافع ودفع المضار عند الأصوليين. فلا فرق بين الشريعة الإسلامية و"شرطة" نابليون، ولا بين "روح القوانين" عند مونتسكيو و"مقدمة ابن خلدون". فمونتسكيو هو ابن خلدون فرنسا. وابن خلدون هو مونتسكيو العرب.
مُثـُل التنوير قيم إسلامية عرفها تراثنا القديم. فالعقل أساس النقل. ومن قدح في العقل فقد قدح في النقل. ويطالب القرآن بالبرهان وبإعمال العقل. والحرية قيمة إسلامية. فقد خلق الله الناس أحرارا. والتوحيد تحرير للوجدان الإنساني من كل صنوف القهر. والمساواة فضيلة إسلامية. فالناس سواسية كأسنان المشط. والإخاء مبدأ إسلامي. والنبي شاهد على أن عباد الله إخوانا. والطبيعة آية من آيات الله، دليل على وجوده. وللناس فيها جمال حين يريحون وحين يسرحون. والتقدم سنة الحياة وقانون التاريخ. وهو لفظ قرآني، (لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر). وقصص الأنبياء دليل على ذلك. وقام العصر الليبرالي في النصف الأول من القرن العشرين على مُثـُل التنوير خاصة العقل والحرية. وما أكثر جماعات "التنوير" الآن. بل تتبناه الدولة ضد الحركات المتهمة بالتخلف والأسطورة والخرافة والتعصب.
والآن، بدأ الغرب ينقلب على نفسه، ويقطع أنفه بيديه. يدمر ما بناه، ويهدم ما حارب من أجله. بدأ نقد العقل وتحطيمه لصالح اللامعقول والعبث والاشتباه باسم الوجود الإنساني أو تناقضات الحياة. فالعالم بلا نسق، والعقل لا يقدر على استيعابه أو ضبطه. كما سادت الاتجاهات التسلطية ممثلة في الفاشية والنازية، والشمولية ممثلة في النظم الشيوعية التي قهرت الحريات الفردية باسم أمن النظام ومصلحة الجماعة، وظهر التفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء نظرا لتراكم رأس المال من المستعمرات الخارجية ومن التصنيع الداخلي، واستغلال العمال والمهاجرين الأفارقة والآسيويين وفقراء أوروبا الشرقية. وعمت الفردية والأنانية ضد مبدأ المساواة بين البشر. وأصبح للفرد الأولوية على الجماعة، والأنانية على الغيرية، والأثرة على الإيثار. أما الطبيعة فقد تلوثت. وماتت الأسماك في الأنهار تحت شعار "الإنسان سيد الطبيعة". وأصبحت مادة صرفة لا حياة فيها، وليست دليلا على شيء. وانهار التقدم، وبدأ النكوص. وقاربت الحضارة الغربية في العصور الحديثة على الانتهاء بعد أن اكتملت الدورة التاريخية.
وشاعت العدمية منذ أعلن نيتشه في نهاية القرن التاسع عشر "موت الدين" وحياة الإنسان. ثم أعلن بارت في منتصف القرن العشرين موت المؤلف، والكتابة في درجة الصفر. فلم يعد يحيا أحد وبدأ نقد الحداثة باسم ما بعد الحداثة. وتفتيت الرؤى الكلية للعالم باسم التفكيك. وغابت القيم المطلقة لصالح النسبية والشك واللاأدرية. وتحدث الفلاسفة عن أزمة الضمير الأوروبي، عند هوسرل فقدان الإحساس بالحياة، وعند ماكس شيلر قلب القيم، وعند برجسون تحويل الآلة إلى إله، وعند اشبنجلر "أفول الغرب". وتكشفت أزمة الحضارة الغربية، وتفسخ مشروعها، أكبر كم ممكن من الإنتاج، لأكبر قدر ممكن من الاستهلاك لأكبر قسط ممكن من السعادة. تعثر الإنتاج بسبب أزمة الطاقة، وسيادة الشعوب على المواد الأولية. وتأزم الاستهلاك نظرا لوجود مراكز صناعية أخرى في آسيا، خاصة الصين واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وهونج كونج. وزاد معدل الانتحار في أكثر الدول الأوروبية تقدما، وهي البلدان الشمالية. وثار الشباب في مايو 1968 رافضين مادية الغرب واستغلاله وكذبه ونفاقه وتسلطه. وانتشرت الثقافات المضادة، ثقافة الشباب والمرأة وجماعات المعارضة.
وصعد اليمين الأوروبي، وعادت "النازية الجديدة". وانتشرت النزعات العرقية والطائفية. وبان العداء للمهاجرين، ووصفت ثقافات الشعوب غير الأوروبية مثل الإسلام بالإرهاب والعنف وخرق حقوق الإنسان والمرأة والطفل والشيخ، والتسلط والطغيان. وكان آخرها الرسوم المسيئة للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام باسم حرية التعبير المطلقة دون مسؤولية