يطرح الكتاب الذي نعرضه اليوم تحت عنوان "الشجاعة والغزو: العمليات الخاصة ومصائر الأمم من أخيل إلى القاعدة"، لمؤلفه ديريك ليبارت، فكرة أساسية مفادها أن العمليات الخاصة التي تقوم بها قوات صغيرة من الرجال الشجعان في إطار مهمات محددة هي ما حدد مصائر العديد من الأمم في التاريخ، وليست الاجتياحات العسكرية الكاسحة. وللبرهنة على وجهة نظره يأخذنا المؤلف في جولة واسعة تستكشف التاريخ العسكري للحضارة الغربية وتغوص في تفاصيله المتعددة ومعاركه الحاسمة بدءا من حصار طروادة في اليونان القديمة وانتهاء بالغزو الأميركي للعراق سنة 2003. والحق أن ليبارت لم يقارب هذا الموضوع المتشعب والبعيد في التاريخ عن جهل وتطفل، بل هو مهيأ تماما لاستنطاق التاريخ وإثبات وجهة نظره. فالمؤلف أستاذ في جامعة جورج تاون العريقة، ومستشار مبرز للعديد من الوكالات الحكومية في الولايات المتحدة، فضلا عن أنه وجه مألوف في الدوائر العسكرية الأميركية إذ شارك في صياغة ميثاق الأمن الأميركي.
ولا يعتبر كتابه الطموح الذي نعرضه اليوم مجرد حوليات عسكرية تحاول التأريخ للمعارك الغابرة، بل يضع الحوادث التي يتناولها في سياقها التاريخي والسياسي والدبلوماسي والتقني والثقافي، بهدف رسم صورة شاملة تتيح للقارئ فهم السياق العام للأحداث والربط بين القضايا المختلفة التي يتناولها الكتاب. وهو بجمعه للأحداث المتباعدة في الزمان والمكان وصهرها في بوتقة موحدة وشاملة يهدف إلى تسليط الضوء على الحضارة الغربية في شموليتها. ويحفل الكتاب بالإشارات إلى الأسماء العسكرية البارزة في التاريخ مثل الإسكندر المقدوني إلى جانب الإمبراطورية الرومانية وقادتها المشهورين، ثم انتهاء بالشخصيات المعاصرة التي أثرت في الحروب الحديثة. وبعد أكثر من 250 صفحة في الكتاب يصل المؤلف إلى الثورة الأميركية، ونابليون بونابارت، والحرب الأهلية الأميركية، ثم يعرج بعدها على الحرب العالمية الثانية ومعاركها الضارية.
ومن خلال عرضه للمعارك الكبرى والحروب الحاسمة التي ميزت التاريخ الغربي يبرز المؤلف الدور الطلائعي الذي لعبته العمليات الخاصة بدءا من إسقاط القصور والقلاع الحصينة وليس انتهاء بسرقة الكنوز الإسبانية، وهي عمليات لا تظهر فقط شجاعة الجنود وبراعتهم، بل تسلط الضوء أيضا على قيمة المفاجأة في إنجاح العمليات العسكرية. ولرسم صورة واضحة عن نظريته حول أهمية العمليات الخاصة، يضرب المؤلف مثال الإسكندر الذي غزا مصر وبلاد فارس وغيرها. وبينما كان يرابط هو وجنوده في أرض تقع اليوم على الحدود بين باكستان وأفغانستان واجه مقاومة عنيفة من أحد القادة المحليين الذي كان يتحصن فوق إحدى القمم الجبلية الشاهقة والمكسوة بالثلوج. وبعد فترة من الحصار طالت قرر الإسكندر إرسال 300 رجل من قواته لتسلق الجبل وإسقاط القلعة مستعملين أوتاد الخيام الحديدية لصعود الجبل، حيث استطاع 270 منهم الوصول إلى قمته وتأمين انتصار قوات الإسكندر. وخلافا للاعتقاد السائد ليست الشجاعة الفائقة والتدريب العالي هما فقط اللذان يميزان العمليات الخاصة، بل الأهم من ذلك حسب المؤلف هو المقاربات العسكرية المفارقة للمألوف، والتفكير غير الاعتيادي الذي يولد الرغبة في ركوب المخاطر وتحقيق النتائج الباهرة.
وكمثال حي على دور العمليات الخاصة في تغيير مجرى التاريخ يورد المؤلف قصة الضابط في البحرية البريطانية سيدني سميث الذي كلف بالعمل على إجلاء الفرنسيين من مصر بعدما احتلها بونابارت سنة 1798، حيث قام بتجنيد ألف من قوات المرتزقة القادمين من البلقان وأنزلهم على شواطئ فلسطين ما مكنهم من السيطرة على قلعة عكا التي لعبت دورا مهما في وقف زحف جيوش نابليون شمالا. وقد نقل عن نابليون لاحقا قوله بمرارة: "لو لم يسيطر الإنجليز على عكا لكنت وصلت إلى القسطنطينية، ومن ثم إلى الهند، حينها كنت سأغير مصير العالم". ويواصل المؤلف سرد المثال تلو المثال عن العمليات الخاصة التي قلبت نتائج الحروب وأسقطت أسرا حاكمة وغيرت التاريخ إلى درجة يعتقد فيها القارئ أنه ما من انتصار عسكري سجله التاريخ إلا وكانت وراءه العمليات الخاصة.
ويفرد المؤلف فصلا لمناقشة العمليات الخاصة خلال الحرب العالمية الثانية وما بعدها، معددا الإنجازات العسكرية الكبيرة التي كانت وراءها تلك العمليات سواء تعلق الأمر بالهجوم الجوي النازي سنة 1940 على إحدى القلاع الهولندية، أو العمليات التي نفذتها القوات البريطانية الخاصة. ويناقش أيضا المسألة التنظيمية ليثير إحدى أكثر القضايا إلحاحا بالنسبة للعمليات الخاصة في الولايات المتحدة والمتمثلة في ضرورة الحصول على المعلومات الاستخباراتية اللازمة للقيام بالعمليات، ومكافحة التجسس من جهة أخرى لحماية القوات الخاصة وتأمين مهامها. ويحذر ليبارت من المشاكل التي مازالت تعيق العمليات الخاصة وتحد من تأثيرها، خاصة فيما يتعلق بالصراع على قيادة تلك العمليات، فضلا عن التجاذبات السياسية التي تحد من نجاحها. وانطلاقا من هذه المشاكل يحاول المؤلف تقيي