في فرنسا يدافع كاردينال يهودي الأصل بشدة عن النظام العلماني الذي يحكم البلاد, ويدعو في الوقت ذاته إلى عدم التخلي عن هذه العلمانية أبداً, أو تراجعها أمام مد ومطالب المهاجرين المسلمين في فرنسا. أما في إيطاليا فيزداد تجاهل المواطنين لتعاليم الكنيسة الكاثوليكية, خاصة المتعلقة منها بمنع الإجهاض والمعاشرة خارج مؤسسة الزواج. وبروح التمرد ذاتها يرحب الإيطاليون أيما ترحيب, بقرار إزالة علامات الصليب من جدران المدارس العامة. إلى ذلك عبرت بريطانيا عن هذا الصراع على نهجها الخاص, إثر سلسلة التفجيرات والعمليات الإرهابية التي تعرضت لها عاصمتها, بقول بعض الذين لم يشاهَدوا يوماً قرب أو داخل أي من كنائسها: على ما يبدو, فإن اليوم الذي يصبح فيه انتماء الواحد منا للديانة المسيحية جريمة, ليس ببعيد!
وفي كل هذا ما يعطي صورة موجزة وعامة جداً عن تركيبة الأديان في أوروبا, وعن غناها وتنوعها وتعقيدها, بل وتضاربها في أحيان كثيرة, على نقيض الصورة الكاريكاتيرية التبسيطية التي ترسمها أميركا عن القارة, مكتفية بوصف الأوروبيين عادة بأنهم مجتمعات متجانسة, يشكل الإلحاد والبعد عن الدين, سمة مشتركة بين معظم أفرادها. فمن ذلك التنوع مثلاً, نلحظ أن دولاً أوروبية بعينها, مثل بريطانيا ومجموعة الدول الإسكندنافية قد عرفت بالتزامها المسيحي. ورغم ضعف التيار المسيحي الشعبي فيها, إلا أن كنائسها تحظى بامتيازات ومكانة تاريخية ممتدة ومعروفة. وفي المقابل نلحظ أن فرنسا كمثال آخر, نفت الدين تقريباً من الحياة العامة منذ ثورتها الكبرى, غير أن ذلك لم يمنع انتشار الدين وازدهاره على نطاق ضيق وخاص.
وفي سبيل تكوين صورة أشمل وأكثر عمقاً عن هذه الخريطة الدينية الأوروبية في علاقتها بالسياسة, فليس هناك كتاب أفضل من "الصراع بين الدين والسياسة في أوروبا, من الثورة الفرنسية وحتى الحرب العظمى" لمؤلفه مايكل بيرلي. ذلك أنه يقدم عرضاً موسوعياً شاملاً لظاهرة صراع الأديان والسياسة في أوروبا, منذ أيام الثورة الفرنسية وحتى اندلاع الحرب العالمية الأولى. ورغم سعة المساحة التاريخية والمعرفية التي غطاها الكتاب, فإنه استطاع أن يفعل ذلك بقدر كبير من الحصافة والقدرة على تناول مادته, وتلخيص ما هو جوهري فيها. وللمؤلف خبرة مشهودة في هذا الجنس من الكتابة, أهلته لنيل "جائزة صمويل جونسون" عن الكتابة غير الأدبية في مؤلفه "الرايخ الثالث". وهنا أيضاً يستعير المؤلف جانباً من تلك الخبرة والتخصص –بصفته مختصاً في تاريخ ألمانيا الحديث والحركة النازية- ليتابع دول القارة الأوروبية واحدة إثر الأخرى, ويبين لنا كيف تم إحلال وإبدال الفهم الديني للواقع وللهوية الأوروبية, بمفاهيم وأيديولوجية العالم الحديث. وغني عن القول إن هذه المفاهيم إما أنها علمانية أو شبه علمانية. ولكن ليس ذلك سوى وجه واحد فحسب من الوجوه المتعددة التي تناولها الكاتب فيما يتصل بطبيعة وتاريخ الصراع بين السياسة والدين في القارة الأوروبية. فهناك وجه آخر لهذا الصراع, يتمثل في الكيفية التي خاض بها الدين معركة العودة إلى الحياة, والإبقاء على حضوره والرد على الهجمات التي تعرض لها. ولكي نكون أكثر دقة في عرض مادة الكتاب, فلنقل إن أهم ما فيه هو الكشف عن هذا الشد والجذب والتداخل ما بين الممارسة الدينية التقليدية, من جهة والعلمانية والنزعة القومية الدينية في بعض المجتمعات الأوروبية من جهة أخرى. وإن هذه الدينامية تشكل عاملاً حاسماً في فهم طبيعة وجذور الصراع السياسي الجاري في بعض أنحاء القارة حتى اليوم, كما هو الوضع السياسي في منطقة البلقان, في علاقته المتشابكة تاريخياً مع الدين.
وغني عن القول بالطبع, إن العلاقة ما بين الأديان السماوية الكبرى, كالمسيحية والإسلام, والمجتمعات السياسية المحلية, عادة ما تتسم بقدر كبير من التعقيد والتداخل, بحيث يصعب توصيفها وفهمها على نحو تبسيطي مخل. فكما حدث تاريخياً في أوروبا, كانت قد اعتمدت مقاومة مختلف القوميات والمجتمعات الأوروبية للنزعة التوسعية العلمانية الفرنسية، على نزعة دينية مناهضة للعلمانية الفرنسية, المطعون في علاقتها بالكنيسة. وقد أعطت تلك المقاومة الشعبية, دفعة وروحاً جديدة للنخب الدينية في تلك البلدان, لولاها كانت ستؤول مكانتها هي الأخرى إلى اندثار سريع, لا يقل سرعة عن أفول الديانة التقليدية أمام مد العلمانية الكاسحة في ذلك الوقت.
أما في مجتمعات أوروبية أخرى, تتسم بتقسيمات دينية أوسع بين مواطنيها, كما هو الحال في ألمانيا, فقد سهل عليها تكييف هويتها القومية والسياسية معاً, على المذهب المسيحي البروتستانتي وليس الكاثوليكي, حيث يبدو الولاء الجديد للأمم المتحدة حينئذ, مفارقاً وغريباً على الانتماء الكاثوليكي العالمي للفاتيكان. وخلافاً لما جرى في ألمانيا, فقد تمكنت دولتان أوروبيتان على الأقل, من تطوير صيغة توليفية ما, لتكييف الهوية القومية والسياسية على المذهبين المسيحيين "الكاثوليكي والبروتستانتي" على نحو ما نجد في أيرلندا وبولند