قليلون جداً أولئك الذين توقعوا منذ ثمانية عشر شهراً أن العراق سيشهد الفوضى والاضطرابات والرعب الذي شاهدناه في لبنان ما بين 1983 و1991، ناهيك عن حرب أهلية. ولكن عقب الانفجار الذي استهدف ضريح القبة الذهبية بسامراء في الثاني والعشرين من فبراير الماضي، أصبحت أغلبية الساسة في العراق تتحدث صراحة عن خطر اندلاع حرب أهلية شاملة، قد لا تفصلنا عنها سوى أيام قليلة. وحتى قبل الانفجار الفظيع الذي استهدف المزار الشيعي في سامراء، واجهت القوات البريطانية جنوب العراق مشاكل كثيرة لأسباب مختلفة. وإذا كان لا أحد من المسؤولين الحكوميين يرغب في الحديث عنها، فإنني أتساءل هنا عما إذا كانت مهمة القوات البريطانية أصبحت مهمة مستحيلة، أو هي على وشك أن تصبح كذلك؟
لقد ندد رئيس الوزراء البريطاني توني بلير بالتفجير ووصفه بـ"العملية اليائسة والمنتهكة للمقدسات". هذا ويخشى الكثيرون داخل العراق وخارجه أن ينفلت زمام البلاد من العاصمة بغداد، إذ من المؤسف حقاً أنه يبدو كما لو أن الأمر سيستغرق نحو أسبوعين آخرين قبل أن يتمكن الفرقاء العراقيون من تشكيل حكومة جديدة، حيث انسحبت جبهة التوافق العراقي التي تمثل الكتلة السنية الرئيسية من المفاوضات الرامية إلى تشكيل الحكومة، واتهمت التحالف الشيعي الحاكم بالوقوف وراء الهجمات. بل إن الانقسامات توجد بين السنة أنفسهم.
ورغم فظاعة وبشاعة تفجير هذا المسجد، الذي شبه في بريطانيا بتفجير كاتدرائية كانتربري، فإن موجة أعمال العنف التي أعقبته بدت أسوأ وأكثر فظاعة، حيث قتل ما لا يقل عن 140 شخصاً في اليوم الموالي وحده، كما تم تخريب أكثر من 100 مسجد. أما البصرة فقد شهدت ارتكاب جريمة فظيعة يندى لها الجبين، حيث جرى سحب اثني عشر سجيناً قيل إنهم جميعهم سنيون من السجن وتم قتلهم. وبدا واضحاً أن الجيش العراقي الجديد وقوات الشرطة عاجزان عن احتواء هذه الهجمات الانتقامية السريعة وعمليات الخطف والقتل.
لقد شكلت الأقاليم الأربعة في الجنوب، حيث ينتشر 8000 جندي من القوات البريطانية، على مدى عدة أشهر أرضية خصبة بالنسبة للمليشيات العراقية. حيث أعلن الضابط "باتريك ماريوت"، قائد الكتيبة المدرعة السابعة، في ديسمبر الماضي أن 60 في المئة من مجهود كتيبته يوجه لحماية وحداتها والمتمثلة في مرافقة السيارات وما لا يحصى من مهمات الحماية، وهو ما يقدم صورة واضحة عن واقع الأمن المحلي. وخاطب الضابط "ماريوت" بعض المراسلين الصحفيين قائلا إن "العناصر المنشقة العراقية ستواصل عملياتها إلى أن نرحل".
هذا وقد ارتفع عدد الجنود البريطانيين الذين قتلوا في العراق إلى 101 جندي. وقد وجهت الخارجية البريطانية انتقادات علنية إلى إيران بسبب تسرب عملائها إلى المنطقة، كما يعتقد بأنها زودت أصدقاءها في العراق بتجهيزات عسكرية متطورة تستعمل في تفجير القنابل، وقنابل جديدة مدمرة للمدرعات تسببت في العديد من الإصابات. وتعتقد الخارجية البريطانية بأن إيران إنما ترد بذلك على التقدم الكبير الذي أحرزته بريطانيا على طريق إحالة ملف إيران النووي إلى مجلس الأمن الدولي.
ومما يذكر في هذا السياق أن المفاوض الإيراني المكلف بالملف النووي "علي لاريجاني" ذهب مؤخراً إلى حد القول في سياق حديثه عن الدول المعارضة لطموحات إيران النووية "في حال استعملت هذه الدول كل وسائلها للضغط على إيران، فإن إيران ستستعمل كل قدراتها في المنطقة".
ومن جهة أخرى، تقوم الفصائل السياسية الشيعية حالياً بتوفير الدعم لمليشياتها المسلحة قليلة الانضباط وكثيرة السلاح. وقد تمكنت هذه المليشيات من السيطرة على بعض وحدات الشرطة التي تولت بريطانيا تدريبها ودعمها. كما نقل عن قائد محلي للشرطة قوله في 2005 إنه لا يثق سوى في أقل من ربع ضباطه.
في الخريف الماضي، أوقف الجنود البريطانيون الشيخ أحمد الفرتوسي الذي يعتقد أنه إرهابي على صلة مباشرة بإيران. ورداً على هذه العملية، اعتقل أفراد من الشرطة العراقية الذين لم يعد متحكما فيهم جنديين بريطانيين كانا في مهمة استطلاعية، وهو ما أدى لاحقا إلى تنفيذ عملية إنقاذ بريطانية جريئة، رفض على إثرها حاكم البصرة التعاون مع القوات البريطانية لعـدة أسابيع.
وعلاوة على ذلك، أعلن سياسيون ومسؤولون آخرون في الأقاليم الجنوبية أنهم لن يعملوا مع البريطانيين، وذلك على خلفية نشر رسوم كاريكاتورية للرسول محمد (عليه الصلاة والسلام) في دول من أوروبا الغربية، وظهور شريط فيديو –صور منذ حوالى سنتين- يظهر فيه جنود بريطانيون وهم ينهالون ضربا بوحشية على فتية عراقيين، في حادث مخز فتحت بشأنه الشرطة العسكرية الملكية تحقيقا ما يزال متواصلا. والحال أن مهمة قوات التحالف في الجنوب تتمثل في "دعم السلطة المدنية"، إذا جاز لنا اقتباس هـذه العبارة العسكرية، على أن يكون الدعم متـبادلا.
ورغم أنني أعتقد أن القوات البريطانية في العراق قد أبلت بلاءً حسنا بصفة عامة، ولاسيما في البداية، وأنها ساهمت في استتباب نوع من الاستقرار، فإنني أشك في قدرتها على