قبل أيام قليلة اتجهت الأنظار في ألمانيا وللحظة وجيزة جاء واحد من تلك الأحداث الدالة والمهمة التي تعكس بصورة واضحة وجلية طبيعة الوعي الجمعي الألماني. ففي مطلع الأسبوع الجاري قضت محكمة في فرانكفوت بمنع عرض فيلم ألماني يصور حادثة مقززة هزت ألمانيا عام 2001، قام فيها أحد الأشخاص بقتل رجل وأكل لحمه بتطوع تام من هذا الأخير الذي ارتضى لنفسه ذلك المصير المروع. وبررت المحكمة حظر عرض الفيلم بأنه "يتطفل على الحياة الشخصية للقاتل". ورغم اختلافنا حول مدى صواب هذا القرار الغريب من خطئه، والذي وضع الخصوصية الشخصية لآكل لحم البشر فوق رغبة الجمهور في مشاهدة الفيلم، فإن هناك إجماعاً على أن ألمانيا التي مازال ماضيها النازي يلقي بظلاله على الحاضر، وإن بشكل خافت، تعتبر من أكثر البلدان تمسكا بالجانب الأخلاقي في سلوكها السياسي، ومن أكثرها حرصا على تجنب الوقوع في أخطاء من هذه الناحية.
ويبدو أن هذه الرغبة المتأصلة لدى الألمان تفسر الفضيحة السياسية التي بدأت خيوطها تتكشف خلال الأسابيع القليلة الماضية عندما تم الإفصاح عن دعم الحكومة الألمانية للولايات المتحدة في حربها على العراق من خلال تزويدها بمعلومات استخباراتية، علما بأن موقفها المعلن من الحرب كان واضحا منذ البداية إذ لم تتردد الحكومة في الجهر بمعارضتها للحرب، كما نأت بنفسها عن أي انخراط مباشر في المغامرة الأميركية. وردا على انكشاف الفضيحة طالبت أحزاب المعارضة بفتح تحقيق في الموضوع مستغلة عدد الأصوات التي تملكها في البرلمان لمواجهة الأحزاب المشاركة في الحكومة. ورغم المصالح السياسية التي ينطوي عليها تحرك الأحزاب المعارضة، مع ذلك لا يمكن الفصل بين إصرار تلك الأحزاب على إثارة القضية أمام البرلمان وانشغال ألمانيا العميق بالقضايا المبدئية وبالسياسة الأخلاقية.
فألمانيا هي الدولة التي تعرض فيها مسؤول أمني رفيع، قبل عدة سنوات، إلى الإقالة من منصبه لأنه هدد أحد المختطفين كان يحتجز طفلا في التاسعة من عمره، بإخضاعه للتعذيب إذا لم يكشف عن مكان وجود الطفل.
والواضح أن تحرك المسؤول الأمني النابع من حرصه على حياة الطفل المختطف، والذي تبين فيما بعد أنه قتل على أي حال، لم يشفع له في الحفاظ على وظيفته ليس لأنه قام بتعذيب الخاطف، بل فقط لإطلاقه تهديدا بذلك. وتشبه الأصولية الأخلاقية التي تعاملت بها السلطات الألمانية مع قصة المسؤول الأمني ما يجري حاليا مع الفضيحة السياسية في البلاد. فرغم معارضة شرائح واسعة من الشارع الألماني تورط بلادهم في دعم حرب عبروا عن رفضهم لها منذ البداية، إلا أن البعض يجادل بأن ما قدمته الحكومة السابقة من دعم لأميركا لا يعتبر نفاقا سياسيا كما يذهب إلى ذلك الشارع الألماني. وفي السياق نفسه يتساءل بعض الألمان عما إذا كانت مساعدة الأميركيين الذين يعتبرون حلفاء وأصدقاء تقليديين لألمانيا، وتجنيب جنودهم السقوط بنيران العدو يعد أمرا مشينا على أية حال. ومع أن الحكومة أخفت الحقيقة عن مواطنيها، إلا أن هناك أسباباً وجيهة دفعتها إلى تزويد أميركا بالمعلومات الاستخباراتية. لكن من جهة أخرى يدل الحزم الذي تعامل به الساسة الألمان مع الحدث وتشديدهم على خطئه على أن المواطن الألماني مازال يعتبر الحرب على العراق أمرا مشينا من الناحية الأخلاقية لا تستطيع دوافع الحكومة مهما كانت تسويغه.
جاري سميث، مدير الأكاديمية الأميركية في برلين ومراقب للمشهد الألماني يقول: "يمتلك الألمان نظرة إلى العالم تعتبر إدارة الرئيس بوش شريرة، وبأن ألمانيا هي صوت العقل والأخلاق". ويضيف سميث أن المفارقة التي تنطوي عليها هذه النظرة هي "أن الألمان يعتقدون أنهم يمارسون نوعا من الواقعية السياسية" مركزين على المصلحة الذاتية بدل الاعتبارات الأخلاقية، "لكن عندما تعلق الأمر بهذا الحدث ظهر الألمان منفصلين تماما عن الواقعية السياسية، حيث مارسوا السياسة دون واقعية". وتتهم الأحزاب اليسارية في ألمانيا الحكومة بتخليها عن الشجاعة السياسية التي تحلت بها في البداية عندما وقفت في وجه الولايات المتحدة ورفضت إضفاء الشرعية على حربها في العراق. ولا تخفي ألمانيا ميلها الواضح للأسلوب السلمي في معالجة القضايا العالمية ونفورها الشديد من الحروب بسبب تاريخها الملطخ بالدماء في الحرب العالمية الثانية إما كدولة معتدية، أو كدولة مهزومة عانت ويلات الحروب ومآسيها.
لذا فإن لجوء الحكومة الألمانية برئاسة "الحزب الاجتماعي الديمقراطي" إلى التعاون مع الولايات المتحدة يعتبر قطيعة قاسية مع الهوية السياسية للحزب ولألمانيا عامة. فقد أدى هذا التعاون المستتر إلى تقويض الهوية السياسية السلمية التي تنبتها ألمانيا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، فضلا عن خلخلة مفاهيمها القائمة على مراعاة الاعتبارات الأخلاقية في ممارسة السياسة. وفي هذا السياق يقول "وولفجانج نواك" مدير المنتدى الدولي لبنك ألمانيا وأحد مستشاري جيرهارد شرودر: "إن أهم ما ميز الحزب الاجتماعي الديمقراطي منذ بداية تأسيسه