داخل مجمع صناعي كبير –يعادل ثلثي مساحة مانهاتن تقريباً- وقف المئات من عمال صناعات النسيج في كوريا الشمالية, يوم الاثنين الماضي, مطأطئي الرؤوس وعيونهم تكاد لا تفارق الأرض, أثناء دخول فريق من المديرين الكوريين الجنوبيين إلى مبنى المصنع لإلقاء نظرة على خطوط الإنتاج بداخله. غير أن العاملة الشابة "كيم إيو هاي", كانت الوحيدة التي لم تخفض بصرها, بل رمقت أحد الزوار الكوريين الجنوبيين, معبرة عما جاش بخاطرها عن تلك الزيارة الفريدة, التي ربما شكلت أقوى المؤشرات على رأب الصدع الذي فصل مجتمعي البلدين عن بعضهما بعضاً على امتداد نصف قرن كامل من الزمان! قالت "كيم": لقد كنت أعلم أنه في الإمكان العمل المشترك مع الكوريين الجنوبيين". قالت ذلك بينما وضعت بلوزة كانت قد فرغت من صنعها للتو, من أجل إرسالها إلى أحد محال بيع الملابس الجاهزة في عاصمة كوريا الجنوبية سيئول. ثم أكملت تعليقها بقولها إن هذا الحدث يقرب شعبي الدولتين الجارتين أكثر من أي وقت مضى, من اجتماع الشمل والوحدة بينهما. وإذا ما تمسكنا بهذه الوحدة, فلا شيء يفرق بيننا أو يوقف مسيرتنا كشعب واحد.
ومهما يكن, فإن ذلك على الأقل هو الأمل الذي يحدو المسؤولين في البلدين الجارين. يشار إلى أن هؤلاء المسؤولين, شرعوا ينظرون إلى مجمع "كيسونغ" الصناعي الواقع على بعد مسافة قريبة من الحدود المشتركة بين الدولتين, على أنه بذرة وأمل المستقبل الصناعي والاقتصادي لشبه الجزيرة الكورية. تضاف إلى هذا المجمع, حقيقة التناسب القائم ما بين التقدم التكنولوجي والمهارات الإدارية الكبيرة التي تتمتع بها كوريا الجنوبية, مع انخفاض الأسعار ومهارة العمالة التي تحظى بها كوريا الشمالية. وإلى جانب ذلك كله, فقد شكل تطوير المجمع الصناعي والحفاظ على تقدمه, تحدياً كبيراً بالنسبة لكوريا الشمالية منذ لحظة إنشائه. وعلى إثر وصول أول الأفواج من عمال المجمع الصناعي إلى بواباته قبل نحو 16 شهراً, احتاج العاملون إلى عدة أسابيع بعد ذلك, كي يتمكنوا من فهم لهجات بعضهم بعضاً, على حد قول ليم دونغ رايول –مدير شركة تايسون هاتا- وهي شركة لمستحضرات التجميل من كوريا الجنوبية, هاجرت شمالاً لتستقر بعملها ومكاتبها بمجمع "كيسونغ" الصناعي, بكوريا الشمالية. وقد تعين على هذا المدير شرح كل صغيرة وكبيرة تتعلق بنمط الحياة الحديثة لعامليه الشيوعيين الفقراء, الذين التحقوا للعمل بشركته قبل عام تقريباً, بما في ذلك التفاصيل, كيفية استخدام المراحيض الغربية الحديثة. أما اليوم, فتصدر هذه الشركة مستحضرات تجميل تبلغ قيمتها ملايين الدولارات, من ذلك المجمع الصناعي الواقع على بعد خمسة أميال فحسب شمالي المنطقة الحدودية الفاصلة بين الكوريتين, والتي تعد من أكثر مناطق العالم تحصيناً وخضوعاً للحراسة والمراقبة على الإطلاق! ويستطرد السيد "ليم" في الحديث: "لكن بالعمل والوقوف جنباً إلى جنب مع إخوتنا في كوريا الشمالية.. انظروا ماذا استطعنا أن نفعله".
وعلى غرار شركة مستحضرات التجميل المذكورة نفسها, فقد عمدت عدة شركات كورية جنوبية, عاملة في مختلف المجالات, مثل صناعات الأحذية والمنسوجات وتصنيع قطع السيارات والأدوات المنزلية وغيرها, إلى تشغيل ما يزيد على 6 آلاف عامل كوري شمالي, في المجمع الصناعي المذكور. وعلى الرغم من طول ساعات الدوام وقسوة العمل ومشقته, إلا أن جميع العاملين بالمجمع الصناعي من الكوريين الشماليين, يعيشون في مستوى حياة فوق حد الفقر, الذي ترزح تحته غالبية الكوريين الشماليين. وليس ذلك فحسب, بل تذهب تقديرات المسؤولين في كوريا الجنوبية إلى احتمال إضافة 15 ألف مواطن كوري شمالي, إلى الأيدي العاملة في المصانع والشركات الكورية الجنوبية, مع انتقال أعمال أكثر من 20 شركة جنوبية جديدة إلى كوريا الشمالية هذا العام. وتذهب الخطط الكورية الجنوبية إلى تشغيل نحو 700 ألف عامل من كوريا الشمالية في الشركات والمصانع الجنوبية بحلول عام 2012. والملاحظ أن العدد الأخير المذكور, يعادل نسبة 4.5 في المئة من إجمالي الأيدي العاملة الكورية الشمالية.
وكانت الحرب الكورية التي اندلعت خلال الأعوام 1950-1953 قد خلفت وراءها حطاماً هائلاً سواء في الجنوب أم الشمال. وعقب انتهاء الحرب, لم يسبق للدولتين أن وقعتا معاهدة سلام بينهما مطلقاً. ولذلك فإن مجمع "كيسونغ" الصناعي الحالي, وبما بدر من خلاله من روح تعاون غير مسبوق بين الكوريتين, يعد أول خطوة من نوعها للتقريب بين شعبي البلدين, من مدخل الصناعة والنشاط الاقتصادي المشترك.
كما تشكل هذه الخطوة أهمية كبيرة بالنسبة لاستراتيجية كوريا الجنوبية, الرامية إلى التقليل والحد من تأثيرات الصدمة الاقتصادية التي يتوقع لها أن تتلقاها, في حال اتحادها مع الجارة الشمالية. وعند الأخذ في الاعتبار بأن معدل متوسط دخل الفرد السنوي في كوريا الشمالية هو فقط ما يعادل 1800 دولار –أي أقل من متوسط دخل الفرد السنوي في كوريا الجنوبية بعشر مرات أو أكثر- فإن من المتوقع أن تواجه كوريا الجن