كان النقيب الكندي يجلس على الأرض، وهو يشرح لكبار رجالات القرية الجبلية الأفغانية مهمة القوات الكندية التي جاءتهم تحمل علم الأمم المتحدة. خلع النقيب خوذته الفولاذية وتركها جانباً وهو منهمك في شرح المهمة الإنسانية التي جاءت قواته لتحقيقها في أفغانستان من أجل إعادة بناء بلادهم وتدريبهم على الديمقراطية فجأة اندفع من الصفوف الخلفية شاب دون العشرين وهو يرفع فأساً ويهتف الله أكبر وهوى على رأس النقيب. سقط النقيب الكندي وبقية الجملة معلقة في حلقه، وسقط الشاب الأفغاني قتيلاً برصاص الحرس.
عندما نقلت وسائل الإعلام تفاصيل الحادث، انفجرت في كندا معركة أخرى في أجهزة الإعلام والمنتديات السياسية أشد ضراوة من المعارك التي ستخوضها القوات الكندية في جنوب أفغانستان الجبلي الوعر. المعركة التي أثارتها الحادثة المؤلمة للنقيب الكندي (هو في الأصل مدني ملحق بالقوات العسكرية في مهمة علاقات عامة) أعادت إلى سطح الحياة السياسية الكندية السؤال القديم- الجديد... لماذا أُرسلت قواتنا إلى أفغانستان أصلاً؟ وهل كندا في حالة حرب أم مهمة حفظ سلام غير متحقق في أفغانستان؟ وثمة تساؤل آخر مؤداه: ما هو دور كندا تجاه هذا العالم المضطرب من أفغانستان إلى دارفور؟ وهل "القول المأثور" بأن كندا هي قوة حفظ سلام وأن هذا الدور الذي لبسته عن قناعة في منتصف القرن الماضي ما زال صالحاً في بدايات هذا القرن الحادي والعشرين؟
وربما لأن القيادة العامة للقوات الكندية ووزارة الدفاع قد أدركتا أن هنالك مهمة أصعب في الداخل من مهمة الخارج, وهي إقناع الكنديين وتعبئتهم خلف قواتهم في أفغانستان, فقد كانت السياسة المرسومة للقوات هنالك هي أن تسعى لكسب ثقة الأفغان وإقناعهم بالقول والفعل بأن مهمة القوات الكندية هي مساعدتهم وتدريبهم لبناء جيشهم الوطني وشرطتهم الوطنية وإعادة إعمار بلادهم بشق الطرق وإقامة الكباري وتدريبهم على قواعد الحكم المدني الديمقراطي وليس الاشتراك في حروبهم الداخلية. الآن أصبحت المهمة الأصعب هي إقناع الرأي العام في الداخل الذي تتفجر مشاعره الرافضة للحروب كلما جاء خبر عن مقتل جندي كندي في بلد لا يعرفون عنه إلا القليل.
القوات المسلحة الكندية لم تخض غمار حرب خارجية منذ اشتراكها في الحرب الكورية باسم الأمم المتحدة, وما تزال ذكرى تلك الحرب التي فقدت فيها كندا عدداً قليلاً من الجنود تثير مرارة وسخط عامة الكنديين. وهي أيضاً لم تتدرب طوال العقود الماضية على مناهج حروب كالتي تجري الآن, وظلت عقيدتها العسكرية محصورة في مهمات الدفاع عن السيادة الوطنية في حدود بلادها والمساعدة في مهمات حفظ السلام عندما تطلب منها الأمم المتحدة ذلك. وهذه حجة قوية يرفعها المعارضون لمبدأ إرسال قوات كندية للمشاركة في حرب غامضة لا يعرفون لها بداية ولا نهاية.
في دوامة هذا النقاش كتب مواطن عادي لإحدى الصحف الكندية رسالة قال فيها إنه رجل يؤمن بوحدة الإنسانية، ولا يحمل ضغينة ضد الأفغان أو سواهم من شعوب ذلك العالم الإسلامي الذي يصعب فهمه على المواطن الكندي البسيط مثله. ولكن يرى أن أفضل مساعدة يمكن أن تقدمها كندا للأفغان وسواهم هي أن تقول لهم الحقيقة والحقيقة الأكيدة. وهي أن ليس هنالك أحد يمكن أن يساعد بلادهم سوى أنفسهم. فلو أجمع العالم كله على مساعدة أفغانستان، فلن يحقق النجاح إذا كان الأفغان غير راغبين أو مستعدين لمساعدة أنفسهم.
عبدالله عبيد حسن