كان نهر الدانوب يتدفق رقراقاً في مجراه الاعتيادي قبل أن يهبط الغسق بعتمته الكاسحة على مدينة بلغراد. كانت التعليمات واضحة: سألتقي مع المحامي الشخصي لسلوبودان ميلوسوفيتش في أحد القوارب الراسية على ضفاف النهر حوالى الساعة الخامسة بعد الظهر. كان الطريق مقفرا ولم تبدُ أية إشارة تدل على الحياة عدا الضجيج الذي كان يحدثه مرور السيارات فوق جسر بعيد. وباستثناء الرجال الثلاثة الذين انتحوا زاوية قصية يغلفهم دخان السجائر المتصاعد فوق رؤوسهم بدا القارب وكأنه خالٍ. لكن ما إن دخلت حتى وقف المحامي دراجوسلاف أونجانوفيتش معرِّفا بنفسه، حيث بدأت أشرح له سبب قدومي المتمثل في إطلاعه على نيتي كتابة سيرة لميلوسوفيتش.
كان المحامي منذ البداية صريحا معي إذ أخبرني بأن موكله المودع في مركز الاعتقال التابع للأمم المتحدة يحظر عليه كشف أية حقائق أو تفاصيل تتعلق بحياته السابقة، أو الإدلاء بحوار للصحافة. لكنه أردف موضحا أن القوانين إنما وضعت للالتفاف عليها، إن لم يكن لانتهاكها، خصوصا في منطقة البلقان. بعد ذلك اللقاء بمدة قمت بإرسال مظروف إلى ميلوسوفيتش في سجنه عبر سلسلة من الوسطاء. المظروف كان يحتوي على نسخة من كتاب يتناول دور البنوك السويسرية في غسل أموال النازيين. وبإقدامي على ذلك كنت أسعى إلى لفت انتباه ميلوسوفيتش، خصوصا وأنني أعرف مسبقا استمرار وجود المشاعر المعادية للألمان في صربيا. وفي مساء أحد الأيام بعد فترة قصيرة على خطوتي تلك تلقيت مكالمة هاتفية أخبرني فيها محامي ميلوسوفيتش بأن موكله استلم الكتاب وبأنه منكب على قراءته في زنزانته بالسجن، ثم أخبرني أنه بعد انتهاء موكله من قراءته سيقرؤه بنفسه ليطلعني في الأخير بأن ميلوسوفيتش سمح لزوجته "ميرا ماركوفيتش" بلقائي، حيث يمكنني السفر إلى بلغراد والتحدث معها كيفما أشاء.
ومع ذلك عليَّ الاعتراف بأنها لم تكن تجربة مريحة أن أنغمس لعدة شهور في دراسة حياة رجل تسبب في قدر كبير من الألم والأسى للناس، لكني قمت بذلك ووجدتني غارقا في تعقب التفاصيل واللحظات الصعبة. وقد استفدت من معرفتي بالمنطقة التي سبق وأن قمت بتغطية حروبها عندما كنت مراسلا لصحيفتي "التايمز" و"الإندبندنت" البريطانيتين. وكغيري من الزملاء كنت مذهولا إزاء فشل العالم في وقف انهيار الإرث التعددي والمتنوع الذي كانت تمتاز به البوسنة على أيدي القوات الصربية، حيث تعرض أهاليها للقتل والتهجير. وفي هذا السياق يبرز الزعيم الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش كأحد أوجه هذا الانهيار، وكأحد العوامل المساهمة في تدمير يوغوسلافيا. لكن بدون امتلاكه لقاعدة قوية من المؤيدين في صفوف الجيش والأجهزة الاستخباراتية، بل حتى في صفوف المواطنين الصرب ما كان له أن يحكم صربيا طيلة الفترة الممتدة من 1989 إلى 2000. وهكذا عكفت على دراسة مشواره السياسي وخلفيته العائلية، وبنية الحزب الشيوعي الذي كان ينتمي إليه، ثم دور الشرطة السرية والجيش الصربي في الأحداث التي هزت البلقان.
وتعقبا لتفاصيل حياة الزعيم الصربي قمت بزيارة مسقط رأس ميلوسوفيتش في بلدة بوزاريفاك الواقعة شرق صربيا والتي شهدت مولد زوجته "ميرا ماركوفيتش" أيضا. كما التقيت بالأخ الأكبر لميلوسوفيتش، السفير الأسبق ليوغوسلافيا في روسيا حيث أخبرني كيف عاشت عائلته الفقر والحرمان في طفولته، وكيف كانوا يشعرون دائما بالجوع. أما زوجته "ميرا" فقد كانت المرأة الوحيدة التي أحبها ميلوسوفيتش إلى جانب أمه، حيث أخبرتني عندما التقيت بها في أحد المطاعم ببلغراد كيف وقفت إلى جانب زوجها ودعمته في كافة القرارات التي اتخذها. لكنها لم تنس التعبير عن خيبتها إزاء المجتمع الدولي الذي أغرى ميلوسوفيتش بالتوقيع على اتفاقيات دايتون للسلام سنة 1995 لإنهاء الحرب في البوسنة، في حين تركه يموت وحيدا في زنزانته. غير أنه على صربيا أن تتعامل مع موت ميلوسوفيتش المفاجئ على أنه انعطافة جديدة في تاريخها ترمز إلى نهاية مرحلة وبدء أخرى. نهاية مرحلة غارقة في أساطير الماضي، حيث صورت صربيا على أنها الضحية، وبدء مرحلة الاعتراف بفظائع الماضي وبالدور الذي لعبه السياسيون والجنرالات في إشعال الحرب. اليوم على صربيا أن تقطع مع إرث ميلوسوفيتش الثقيل وتمضي قدما لتتبوأ مكانتها التي تستحقها ضمن أوروبا.
آدام ليبور
ـــــــــــــــــــــ
كاتب سيرة ميلوسوفيتش
ـــــــــــــــــــــ
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"