المشاهد الثلاثة التالية تعكس الحالة المأساوية العبثية التي وصلت إليها الممارسة السياسية في أرض العرب:
أولا: في عاصمة عربية كبرى ضمّنا مجلس حضره عدد من الكتاب والسياسيين، كان الداعي، وهو رئيس حزب ليبرالي معارض، راغباً في أن يطرح علينا سؤالاً يتعلق بنوع العلاقة التي يجب أن تقوم بين حزبه وجماعة "الإخوان المسلمين" كحركتي معارضة للنظام الحاكم. عندها تبارى الحاضرون في إبداء الرأي بين مؤيد لقيام تعاون وبين معارض للاقتراب من أي "إسلام سياسي". ولأن غالبية الحضور من الليبراليين انقلبت الجلسة إلى بكائيات ونقد لاذع لكل ممارسات "الإخوان المسلمين" السياسية. فلما جاء دوري أجبت بطرح سؤال متواضع معاكس، قلت للسائل: ماذا كان وراء تكوين حزبكم في الأصل؟ قال: "إيقاف مهزلة التمديد لفترات حكم الحاكم ومنع الاتجاه نحو توريث الحكم للأبناء"، قلت: في هذه الحالة أليس منطقياً أن تركزوا على هدفكم الأصلي وتضعوا يدكم في أيدي "الإخوان المسلمين" من أجل هذا الهدف المشترك وتؤجلوا خلافاتكم الإيديولوجية مع الحركة الإسلامية إلى ما بعد تحقيق ذلك الهدف؟
ثانيا: كان الانتصار الانتخابي لحركة المقاومة الإسلامية "حماس" فرصة تاريخية لإعادة طرح الأسئلة الجوهرية الفلسطينية على المجتمع الدولي بعد أن استطاع الحلف الأنجلو أميركي- الصهيوني إدخال العالم في متاهات نقاط فرعية لا تمت بصلة للحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني وفي الوقت نفسه غطّى على الطبيعة الإمبريالية النازية للوجود الصهيوني في فلسطين. وبالفعل فقد قامت "حماس" منذ البداية بأخذ زمام المبادرة وطرح الأسئلة الصعبة على الجلاّد ومسانديه قبل أن يجلسها على كرسي المحاكم الأميركيون والأوروبيون، نيابة عن الصهاينة، بدلاً من أن تنبري الأنظمة العربية وجوقة "الواقعيين الـــعرب الجدد" ليساندوا "حماس" في طرح الأسئلة على الصهاينة وحلفائهم والمطالبة بإجابات واضحة من قبلهم تتزامن مع إجابات "حماس" على الأسئلة التي يطرحها عليها المجتمع الدولي، فإنهم أصيبوا بالتلعثم بل وبالإلحاح على "حماس" لتتنازل عن ثوابتها ولتنخرط في اللعبة إياها التي أضاعت القضية الفلسطينية برمتها. أما في فلسطين المحتلة فآهٍ من المتساقطين على طرقات النضال الوعرة تعباً وانتهازيةً وهم يمارسون ألعاب السياسة الفئوية على حساب القضية والوطن الذي يتقلّص ويصغُر منذ السقوط في "أوسلو" وغيرها من منتجعات مفاوضات العبث والهزل.
ثالثا: يستطيع الإنسان أن يختلف مع إيران في سياستها في العراق وفي الخليج عامة، بل وأن يختلف معها في وجهات نظرها الفقهية، لكنها تظل دولة إسلامية لها حقوق الانتماء إلى أمة وعالم الإسلام. إنها اليوم تتعرض لابتزاز ولضغوط ولمناورات في موضوع ملف الطاقة النووية. ومرة أخرى بدلاً من أن تطالب الأنظمة العربية دول الغرب بتقديم أجوبة صريحة واضحة عن موقفها تجاه الترسانة النووية الإسرائيلية الهائلة، فإنها تكتفي بغمغمة جملة عامة من مثل ضرورة إبقاء منطقة "الشرق الأوسط" خالية من أسلحة الدمار الشامل. ومرة أخرى تضيع فرصة ذهبية في طرح موضوع البرنامج النووي الإسرائيلي بقوة ووضوح أمام الرأي العام العالمي.
ما الذي تشير إليه تلك المواقف؟
إنها تشير إلى العجز عن اختيار الأولويات وتقديمها على كل ما عداها، وإلى إضاعة الفرص التاريخية لاستخدامها من أجل إعادة التركيز على لبّ المواضيع القومية والوطنية، وإلى التردد في ممارسة الحدود الدنيا من التضامن الإسلامي.
كل ما يفعله ممارسو السياسة العرب مع الأسف هو العيش في خوف ورعب من سطوة اللوبي الصهيوني في واشنطن أو الخوف من بعضهم بعضاً، وحينما يدخل الخوف يخرج العقل وتموت الإرادة.