في السياسة إذا لم يكن عند السياسيين شيء آخر غير الذكاء فسيقول لهم الناس "سوّد الله وجوهكم وخيّب ظنكم وطيّح حظكم". العبارة الآنفة وردت في رسالة الكاتب العراقي الهزلي شلش العراقي إلى سياسيين جعلوا العراق "زريبة ميليشيات تقتتل فيما بينها"، وجلسوا "كالغربان على كراسي النهب والقتل والخراب". حقق الكاتب العراقي بمقالاته المنشورة على شبكة الانترنت شهرة عالمية بلغت صحيفة "نيويوك تايمز"، التي اقتبست منه بعض العبارات اللاذعة. وللصحيفة الأميركية الأولى أسبابها في التشنيع على سياسيين عراقيين "أذكياء" خرّبوا موثوقيتها بشكل ربما لا رجعة فيه. فالعدد الأخير للمجلة الأميركية الليبرالية "مذر جونز" Mother Jones فضح خلفيات أول وأخطر تقرير نشرته "نيويورك تايمز" عن علاقة مزعومة للعراق بأحداث 11 سبتمبر في نيويورك وواشنطن. نُشر التقرير بعد الأحداث بشهرين، وجاء فيه أن مراسل الصحيفة قابل في بيروت جنرالاً عراقياً هارباً اسمه جمال الغريري وحصل منه على معلومات خطيرة عن معسكرات يدرب فيها نظام صدام حسين إرهابيين أجانب من 40 جنسية مختلفة على مهاجمة المنشآت الحيوية في الولايات المتحدة. أعيد نشر التقرير في معظم أجهزة الإعلام الأميركية والعالمية، وكُرست له الافتتاحيات والنقاشات التلفزيونية، ودشّنت الصحيفة به الحملة الإعلامية والسياسية المحمومة التي انتهت بغزو العراق. والآن تكشف مجلة "مذر جونز" أن تقرير "نيويورك تايمز" لفّقته جماعة أحمد الجلبي، وأن الشخص الذي انتحل اسم الجنرال العراقي لم يكن سوى جندي سابق محتال دربته الجماعة على طرق خداع الإعلام. جمال الغريري الحقيقي، الذي عثر عليه أخيراً مراسل المجلة في الفلوجة لم يغادر العراق في حياته، ولم يكلم صحفيين أميركيين قطّ. وأحصت المجلة 108 تقارير كاذبة نشرتها الصحافة الأميركية والبريطانية خلال فترة الإعداد للحرب، كان مصدرها الجلبي الذي اعتمدت عليه إدارة جورج بوش وتوني بلير في تلفيق أكذوبة أسلحة الدمار الشامل.
وإذا صحّ ما يقال عن ذكاء أحمد الجلبي في خداع دولتين عظميين، فما سبب فشله في توقع عواقب كارثة غزو العراق؟ وكيف لم يدرك أن استماتته في حلّ الجيش، وتسريح قوات الأمن العراقية، وتطبيق ما يُسمى "قانون اجتثاث البعث" ستفتح أبواب جهنم؟ وهل جهل، وهو المختص بالرياضيات والصيرفة، الدمار الذي أنزله الحظر الدولي خلال 13 عاماً، ليس بنظام صدام حسين، بل بهيكل المجتمع العراقي وطبقته المتوسطة التي تشكل العمود الفقري للدولة والمجتمع؟ وكيف لم يدرك حجم الفتنة الطائفية، التي ستساهم فيها دعوته إلى "البيت الشيعي"؟... وأخيراً ما سبب فشله الذريع في الانتخابات الأخيرة، التي جنّد لها عددا من أصحاب الكفاءات العليا، بمن فيهم ابنته الدكتورة تمارا الحاصلة على شهادة من جامعة هارفارد عن أطروحة حول تاريخ الشيعة؟
حجم الأسئلة المطروحة من حجم الفرص، التي توفرت للجلبي في منع الكارثة العامة والشخصية أيضا. وقد تساعد على إدراك ذلك مقارنته بدبلوماسي لبناني الأصل وقف مع العراق، وواجه واشنطن في أكبر معركة يخوضها شخص في تاريخ العلاقات الدولية، هو جوزيف بستاني، أو خوزيه كما يُنطق بلغة بلده البرازيل. وخوزيه بستاني نموذج للدبلوماسي المحترف تدرّج عبر السلالم التقليدية منذ تخرجه من الأكاديمية الدبلوماسية في البرازيل عام 1967، وتعيينه بدرجة سكرتير ثالث، وحتى تعيينه بمنصب سفير عام 1995، أعقبها انتخابه لمنصب أول مدير عام لـ"المنظمة الدولية لحظر الأسلحة الكيماوية".
خلال خمس سنوات من قيادته للمنظمة حقق البستاني لأمن وسلامة العالم مكاسب لم يحققها أي مسؤول دولي آخر، حيث استطاع أن يزيل مليوني قطعة سلاح كيماوي ويفكك نحو ثلثي وسائل صنعها. ذكرت ذلك صحيفة "الغارديان" البريطانية في معرض دفاعها عن بستاني عندما كانت واشنطن تدبر مؤامرة لعزله في عام 2002. وحققت تلك المؤامرة أول خطوات واشنطن على المسرح الدولي لتحطيم أي اعتراض ضد حربها المقبلة على العراق. واستهدفت المؤامرة بستاني، لأنه ارتكب خطأين فادحين، في تقدير واشنطن، أولهما مطالبته الولايات المتحدة بفتح مستودعاتها للتفتيش الدولي أسوة بباقي الدول الأعضاء في المنظمة، والثاني حصوله على موافقة العراق للانضمام إلى اتفاقية حظر الأسلحة الكيماوية. كان ذلك سيفتح أبواب العراق لمفتشي المنظمة والتوثق من خلوه من الأسلحة الكيماوية. وعهدت واشنطن بقيادة الانقلاب ضد بستاني إلى أسوأ موظفيها الدبلوماسيين سمعة، وهو جون بولتون، ممثلها الحالي في مجلس الأمن. لجأ بولتون إلى أساليب تهديد وابتزاز لا يقوم بها حتى سفراء ديكتاتوريات "جمهوريات الموز". وكشف تقرير نشر في "الغارديان" في اليوم التالي للتصويت على عزل بستاني عن رشوة قدمت لبعض الوفود، ووعود كاذبة بترشيح شخص بديل من قارة أميركا اللاتينية، وتهديد بالقضاء على المنظمة الدولية، وحتى التهديد باغتيال أي موظف أميركي يسرّب هذه المعلومات للصحافة.
وهكذا بعد شهور قليلة من الإشادة بجهوده، وإعادة انتخ