تقترب العملية السياسية في العراق من الطريق المسدود، فالمرشح رئيساً للحكومة الجديدة الدكتور إبراهيم الجعفري مرفوض من معظم الأحزاب والقوى المشاركة في هذه العملية، بل من غالبيتها الساحقة إذا أخذنا في الاعتبار أن نصف التحالف الذي ينتمي إليه "الائتلاف العراقي الموحد" أيد مرشحاً آخر هو الدكتور عادل عبدالمهدي. فلا يحظى الجعفري بتأييد إلا من حزبه "حزب الدعوة الإسلامي" والتيار الصدري الذي مارس ضغوطاً قوية على بعض نواب "الائتلاف الموحد" في البرلمان لاختياره مرشحاً لرئاسة الحكومة، ومع ذلك فاز على منافسه عبدالمهدي بفارق صوت واحد لا غير.
ويثير الدهشة إصرار الجعفري على أن يرأس حكومة يرفض معظم وزرائها، المحتملين قيادته لهم في العمل الوزاري. فسواء شُكلت حكومة وحدة وطنية جامعة، أو حكومة أغلبية عادية، سيكون معظم الوزراء من الأحزاب والكتل التي ترفض رئاسة الجعفري أو على الأقل لا تفضلها.
ولا يقل إثارة للاستغراب أن يكون الحليف الوحيد للجعفري هو التيار الصدري، الذي يرفض بعضاً من أهم أسس العملية السياسية التي يؤيدها حزب الجعفري "الدعوة" ويُعتبر رئيس الحكومة هو المسؤول الأول عن دعمها وإكمال خطواتها.
وهذا وضع يتعارض مع أبسط مقومات النظام الديمقراطي التقليدي، الذي يقوم على غالبية وأقلية، ومع أخص خصائص الديمقراطية التوافقية التي تحاول الطبقة السياسية العراقية أن تضع قواعد لها منذ عامين.
فأما الديمقراطية العددية الشائعة التي تقوم على حساب عدد أصوات الناخبين الذين يقترعون لكل حزب أو قائمة، وعدد المقاعد التي يحصل عليها كل من هذه الأحزاب والقوائم، فهي لا تجيز الإصرار على ترشيح الجعفري.
وأما الديمقراطية التوافقية التي يحاول العراقيون استلهامها في نظامهم السياسي الجديد، فهي تُناقِض ما يحدث الآن جملة وتفصيلا، لأن القرارات الكبرى فيها تُتخذ بالتوافق وليس بالإرغام. واختيار رئيس الوزراء هو أحد هذه القرارات، خصوصاً في النظام البرلماني الذي يكون فيه من يشغل هذا المنصب هو مركز الثقل وليس رئيس الدولة. فهذا النمط الخاص من أنماط النظم الديمقراطية يفيد في المجتمعات التي تعرف انقسامات اجتماعية وثقافية عميقة ناجمة عن اختلافات دينية وطائفية وعرقية ولغوية وعشائرية، وهو المعنى الذي يختزله مفهوم الإثنية. فالإثنية دلالة على هوية معينة قائمة على الانتماء الديني-الطائفي-المذهبي، أو الأصل العرقي، أو اللغة، أو القبيلة-العشيرة.
وقد أثبتت التجارب أن ثمة صعوبة في تطبيق الديمقراطية التقليدية، في معظم المجتمعات التي يوجد فيها مثل هذا الانقسام الإثني. فهو انقسام قابل للتسييس، ومن ثم إقامة أحزاب وكتل إلى شيوع ثقافة سياسية تميل إلى العداء المتبادل وتحول دون الحوار والحل الوسط للخلافات. وهذا هو ما نشهد مظاهر واضحة له في العراق الآن. وقد لا يتيسر تقليل هذا الخطر إلا عبر توافق عام بين مختلف، أو على الأقل معظم، الجماعات الإثنية والأحزاب والكتل السياسية على ترتيبات معينة تضمن تمثيلاً معقولاً ومشاركة مقبولة للجميع بغض النظر عن نتائج الانتخابات. ونجح هذا النمط التوافقي في دول أوروبية متقدمة مثل سويسرا وهولندا وبلجيكا والنمسا، وفي دول آسيوية مثل ماليزيا، مع اختلاف شكل التوافق ومقوماته حسب ظروف كل بلد ونوع الانقسامات الإثنية الأكثر خطراً فيه.
وهناك أربعة أشكال رئيسية للنظام التوافقي، أولها أن يقوم النظام السياسي في مجمله على ائتلاف واسع يضم ممثلي كل أو معظم الجماعات الإثنية. وغالباً ما يكون ذلك في صورة مجلس أعلى ذي وظائف استشارية لكنه يتمتع بنفوذ قوي لدوره التوفيقي في حل الخلافات. وفي هذه الحالة ليس ضرورياً أن تكون الحكومة ممثلة لكل الجماعات، إذ يتم تشكيلها حسب نتائج الانتخابات ما دامت هناك جهة تعبر عن التوافق العام، قادرة على التدخل إذا اتخذت هذه الحكومة قراراً أو إجراء يلحق ضرراً جسيماً بإحدى الجماعات الإثنية.
أما الشكل الثاني فهو "فيتو" متبادل لحماية مصالح الأقليات يتم تضمينه إما في الدستور أو في قانون من القوانين الأساسية. والأكثر شيوعاً في هذا الشكل هو النص على أن القوانين والقرارات المؤثرة على الهويات الإثنية يجب أن تحصل على موافقة أعضاء البرلمان الممثلين للجماعة الأكثر تأثراً بها. ونجد مثالاً لذلك في الدستور البلجيكي الذي ينص على أن القوانين ذات الصلة بالهوية واللغة يجب أن تحظى بقبول أعضاء البرلمان الممثلين للجماعتين اللتين تتحدثان الألمانية والفرنسية.
وثمة شكل ثالث للنظام التوافقي نجده في نظام الحصص الذي يوفر حداً أدنى من التمثيل والمناصب السياسية لمختلف الجماعات الإثنية. ويبقى شكل رابع هو إتاحة درجة كبيرة من الاستقلال الذاتي لكل جماعة في إدارة شؤونها الدينية أو اللغوية أو التعليمية أو الاجتماعية.
والقاعدة العامة في النمط الديمقراطي التوافقي، على هذا النحو، هي أن يكون هناك توافق عام على بعض الترتيبات الضرورية لمشاركة مختلف الجماعات بغض النظر عن عدد كل منها، وبالتالي وزنه الن