في خطوة تعد الأولى من نوعها منذ عقود، التأم المجلس الشعبي الوطني، وهو الهيئة التشريعية التابعة للحزب الشيوعي الصيني، في دورته السنوية التي تمتد على مدى أسبوعين للحسم في النقاش الأيديولوجي المتجدد بين الاشتراكية والرأسمالية، بعدما ساد الاعتقاد بأنه نقاش تم دفنه إلى الأبد على إثر النمو الاقتصادي المطرد للصين في السنوات الأخيرة. وقد وصل الجدل الدائر في البرلمان الصيني إلى حد الوقوف في وجه الحكومة وإعاقة إصدار مشروع قانون يهدف إلى حماية حقوق الملكية الخاصة الذي كان متوقعا أن يصادق عليه البرلمان دون مشاكل. وجاءت هذه المعارضة لتسلط الضوء على بروز مجموعة صغيرة، لكنها مؤثرة، من الأكاديميين والمستشارين السياسيين ذوي الميول الاشتراكية الذين يوظفون الهوة المتزايدة في المداخيل والاضطرابات الاجتماعية المتنامية، لإثارة الشكوك حول ما يعتبرونه اتجاه الدولة الخاطئ نحو مراكمة الثروات الخاصة وتبني تنمية اقتصادية قائمة على السوق الحرة.
وترجع جذور هذا النقاش إلى النقد اللاذع الموجه إلى قانون حقوق الملكية الخاصة الذي نشر على مواقع الإنترنت خلال الصيف الماضي، حيث اتهم صاحب النقد، الأستاذ بكلية الحقوق في جامعة بكين، جزنج زيانشيان، خبراء القانون الذين أعدوا المشروع "باستنساخ القانون المدني الرأسمالي كما لو كانوا عبيدا"، مضيفا أن القانون يساوي في الحماية بين "سيارة فارهة لرجل غني، وعصا يجرها متسول". والأهم من ذلك احتجاجه على القانون الذي تجاهل الإشارة إلى أحد المفاهيم المقدسة في الصين والمتمثلة في أن "الملكية الاشتراكية راسخة ولا يمكن انتهاكها". وبالنسبة للذين أعرضوا عن تلك الانتقادات باعتبارها رجوعا إلى ماض بعيد لم يقدروا حق التقدير الإغراء الذي مازالت تمارسه الأفكار الاشتراكية في بلد تشكل فيه الفروق المتنامية بين الفقراء والأغنياء، وكذلك الفساد المنتشر على نطاق واسع، فضلا عن الخروقات في مجال حقوق العمال ومصادرة الأراضي، تذكيرا يوميا بمدى انحراف الصين عن أيديولوجيتها الرسمية.
وفي هذا السياق يقول "ماو شولونج"، متخصص في السياسة العامة وأستاذ بالجامعة الشعبية في بكين، بأن الحكومة "لا تتحرك قدما إلا إذا تشكل إجماع قوي، لكن اليوم بدأ يتآكل الإجماع في ظل النقاش الأيديولوجي المحتدم، وهو ما لم نره منذ وقت طويل". ومن غير المرجح لهذا النقاش مهما بلغت حدته أن يخرج الصين عن مسار اقتصاد السوق والاستمرار في تحقيق معدلات نمو كبيرة. وفي ما اعتبره الخبراء السياسيون في الصين وأعضاء الحزب الشيوعي إشارة واضحة إلى النقاش الأيديولوجي الدائر حاليا، صرح الرئيس الصيني نفسه هو جينتاو في الأسبوع الماضي بأن على الصين "أن تواصل بثبات الإصلاحات الاقتصادية". وانسجاما مع سياسة السوق المفتوحة والتزاماتها تجاه منظمة التجارة العالمية سمح الوزير الأول وين جيابو بتدفق الملايين من الدولارات كاستثمارات أجنبية على القطاع المالي الذي كان إلى وقت قريب تحت الحماية الصارمة للدولة. وبالرغم من معارضة القانون المتعلق بحقوق الملكية الخاصة الذي استغرق ثماني سنوات لإعداده، والرامي إلى تشريع بند كان قد أضيف إلى الدستور الصيني سنة 2003، فإن مآله في النهاية سيكون التصديق مع إدخال بعض التعديلات عليه.
غير أن هذا النقاش ما كان ليطفو على الساحة الصينية لو لم يقم الرئيس الصيني والوزير الأول بتأجيجه من حيث لا يدريان عندما اتخذا من مسألة معالجة الفوارق المتنامية محورا لجهودهما الدعائية، حيث لم تخلُ وسائل الإعلام الرسمية من مطالب تحقيق "العدل الاجتماعي" واعتباره أولوية السياسة الاقتصادية بدل التركيز على معدلات النمو المرتفعة وخلق الثروة. ومنذ وصول الرئيس هو جينتاو إلى الحكم عام 2002 سارع إلى تثبيت ميوله اليسارية من خلال إشادته بماركس أحيانا وامتداحه لماو في أحيان أخرى، كما قام بتمويل الأبحاث الرامية إلى مواءمة الأيديولوجية الاشتراكية مع متطلبات العصر الحديث. وفي هذا الإطار طلب من قادة الحزب عام 2004 الانكباب على دراسة التجربتين الكوبية والكورية الشمالية وكيفية حفاظهما على الاستقرار السياسي. ولم ينس الرئيس الحالي أن ينأى بنفسه عن سلفه جيان زيمين الذي سمح بانضمام رجال أعمال إلى الحزب الشيوعي وأجاز لمسؤولين كبار الاغتناء من المال العام على حساب الفقراء. والنتيجة، كما يقول الخبراء، أن القيادة الحالية أصبحت تلاقي صعوبة كبيرة في اتباع بعض الحلول الرأسمالية لمعالجة القضايا الاجتماعية مثل توفير الرعاية الصحية لسكان الريف، ومكافحة الفساد المستشري في القطاع العام، فضلا عن إتاحة التعليم لفئات واسعة وإدخال إصلاحات حقيقية على القطاع البنكي وشركات التأمين.
ورغم أن السلطات الصينية اقترحت خطة لمعالجة مشاكل سكان الأرياف تحت اسم "بناء ريف اشتراكي" تقضي بضخ المزيد من الأموال الحكومية إلى المزارعين، إلا أنها لا تتضمن رفعا للقيود المفروضة على الأنشطة الاقتصادية مثل حظر بيع الأراضي التي يعتبرها العديد من الخبراء تكريسا لل