قالت: "لا أعرف السرير إلا بعد انتصاف الليل، كأني في سباق ماراثوني مع الوقت، أستيقظ فجراً للصلاة، بعد أن أجهز حقائب أولادي الثلاثة أصطحبهم للمدرسة وأنا في غاية البشاشة حتى يبدأوا يومهم سعداء، أعود للمنزل، آخذ ابنتي لأودعها في بيت الجيران ليهتموا بها، وأعلم أنهم لا يفعلون، لكن على الأقل لن تكون وحيدة مع الخادمة.
أذهب للعمل وأكاد لا أبالغ إن قلت إنني أتأخر بشكل يومي، ويخصم من راتبي، لكن لا حلّ لديّ مهما حاولت. أعمل بانهماك، أثرثر مع الزميلات، وأنتظر استلام الجمعية أول الشهر القادم، سيذهب المبلغ لإنهاء قسط السيارة أخيراً والبقية سأتبضع للأولاد لشراء ملابس الصيف.
أعود ظهراً، أسخن الغداء الذي تم طهوه ليلاً، يأكل الصغار ويأتي والدهم متأخراً، يأكل وحده ليذهب لينام.
أجالس الصغار وأهتم بالصغيرة، أراجع معهم دروسهم، في هذه الأثناء تكون الخادمة قد أعدت العشاء وغداء اليوم التالي وانتهت من تنظيف البيت.
أساعدها في كيّ الملابس المتراكمة، وأجدني قد دخل المساء وأنا لم أبدل حتى ملابس الصباح، وأتذكر كيف أنني لم أسرح شعري منذ الأمس.
أولاد متفوقون، يفتخر بهم والدهم أمام أهله وهو لا يعرف عنهم إلا وقت نومهم واستيقاظهم، بمجرد ما يستيقظ يكون وقت المغرب قد هلّ، يخرج للقاء أصدقائه وأبقى وحيدة في واجبات صعبة، أحب بيتي والصغار، لكن الآلام تكاد تأكل جسدي، لا وقت لمراجعة الطبيب سأذهب في الإجازة، أقدم إجازة في الصيف لأتمكن من اصطحاب الصغار لمزاولة أنشطة صيفية مفيدة، وأنسى أنني لابد أن أذهب لإجراء فحوصات عامة.
المستشفى الحكومي مزدحم ونتائجه طويلة، والخاص لا تطيقه ميزانيتي المتواضعة، أشعر تجاه الصغيرة بالأسى، لم تكمل العام ولم أقضِ معها أي وقت، حتى إجازة الأمومة لا تتجاوز الشهرين، وتركتها باكية مضطرة! اصطحبتني صديقتي إلى دكتورة تعرفها، كانت أجرة الفحص معقولة وكان لا يزال هناك مبلغ متوفر من الجمعية، أجريت فحوصات عدة وبعد أيام أخبرتني أنني مصابة بأورام ربما تكون خبيثة..."!
انتهت القصة عند هذا الحد، لأن بطلتها الآن في رحلة علاج بين أروقة مستشفيات الدولة، وشعورها بالضياع يزداد وخاصة أن ليس هناك من يرعى الصغار في غيابها، ووالدتها مسنة وأخواتها في إمارة أخرى.
والسؤال: لو لم تكن هذه السيدة محملة بكل هذه الأعباء، أكانت أصيبت بهذا المرض؟ بالضرورة، لأن مثل هذا المرض كما يشخصه الأطباء، أن الإرهاق وكثرة الهموم تفقد الجسم مناعته وبالتالي تكون الفرصة مواتية لظهور هذه الأورام.
هي لا تبحث عمّن يساعدها مادياً، لأنها لا تحتاج، إنها تحتاج إلى يوم عالمي للمرأة يمس شغاف ألمها ويظهر كم هي المرأة في المجتمع غارقة في تفاصيل قاتلة، فلا الوظيفة تمنحها فرصة رعاية صغار بإجازة تقدر دورها المقدس والاستثماري المهم، ولا الرجل حين يتخلى عن كل مسؤولياته ويعامل نفسه على أنه المخدوم طوال الوقت، ولا المجتمع حين لا يرحم قهرها لكونها معبأة بكل هذه التفاصيل الشرسة.
المرأة في حاجة إلى دراسة حالة وتعديل أوضاع، ولا يكفي أبداً اعتبارها جزء المجتمع الأهم، والغرق في هذه الأقوال المفرغة في عمق يعكس خطورة الاستخفاف بامرأة تلعب كافة الأدوار. والنهاية تكون حياتها وهذا أقسى ما يمكن أن يُقدم.