وردت كلمة شهيد ومشتقاتها في القرآن الكريم في أكثر من ثمانين موضعا. والشهيد والشهادة والاستشهاد هي بمعنى الحضور والاعتراف والإقرار، وكفى بربك على كل شيء شهيدا.
وربما كانت ريشيل كوري التي ماتت دهسا تحت عجلات البلدوزر الإسرائيلي، وهي تدافع عن بيت فلسطيني كي لا يهدم على أيدي جيش الاحتلال والمستوطنين، هي الشهيدة بدون حرب ولا قتال. وريشيل كوري شهدت بموتها، بأبشع طريقة، والآلة الثقيلة تمر ببطء عليها، والناس حولها شاهد ومشهود؛ كما قتل أصحاب الأخدود، فشهدت على الحق، وهي المرأة الضعيفة، بدون عضلات وفحولة، شهدت بلحمها المهروس المختلط بدمائها، فحركت الضمائر في كل العالم، بدون تفجير وعمليات انتحارية بحزام ناسف وقطع للرؤوس. ويتم إحياء قصتها بفيلم مع مطلع العام الجاري بعد مرور سنوات على استشهادها.
وقصة ريشيل كوري تذكر بالنساء المؤمنات المكافحات في الحق على امتداد التاريخ، بدءاً من امرأة فرعون التي قالت، رب ابن لي عندك بيتا في الجنة، وسمية التي كانت أول شهيد في الإسلام، فسبقت المرأة الرجل إيمانا بإيمان خديجة، واستشهادا باستشهاد سمية.
وربما تجسد مثل من نوع آخر في "روزا باركس" التي رفضت الامتثال لقانون التمييز العنصري في ولاية ألاباما، وعارضت أن يفرغ السود أماكنهم للبيض إذا صعدوا الحافلة، فحركت الشارع لإعادة الاعتبار للسود في أميركا مع خمسينيات القرن العشرين. وبيع باص العصيان كتحفة بمبلغ 492 ألف دولار أميركي. وتذكر باركس بعد أن بلغت الثمانين في كتابها (القوة الهادئة): "في ذلك اليوم تذكرت أجدادي وآبائي والتجأت إلى الله فأعطاني القوة التي يمنحها للمستضعفين"، وفي ذلك ما يذكرنا بدعاء نبي الله نوح عليه السلام: "فدعا ربه أني مغلوب فانتصر".
ومن التراث الشرقي امرأة إيرانية هي "قرة العين" هزت الأوساط السياسية في منتصف القرن التاسع عشر بنشاطها الجم في تحرير المرأة وإعادة الاعتبار إليها باعتبارها كائنا مساويا للرجل. فاعتلت المنابر وخطبت في الناس فأثرت وأبكت. وكانت في غاية الجمال والفصاحة وقوة الشخصية والحجة وكان مصيرها عام 1852 أنها حكمت بالإعدام فقدمت منديلها الحريري لتشنق به فجرت من شعرها بذنب بغل ثم أحرقت حية على إحدى الروايات.
ويقول عنها علي الوردي في كتابه "موسوعة تاريخ العراق الحديث" إنها سبقت عصرها ولو جاءت متأخرة لكانت من أعظم شخصيات القرن.
وينضاف إلى هذه القائمة بيرتا فون سوتنر (1843- 1914) التي نشأت في عائلة أرستقراطية في براغ ونشرت قصتها بعنوان: "تخلصوا من السلاح". وأهم إنجاز لتلك المرأة أنها من خلال علاقتها الطويلة مع ألفرد نوبل، عالم الكيمياء السويدي الشهير أنها كانت من أوحى إليه بفكرة (جائزة نوبل للسلام). وفي جو الحرب المشحون عام 1914 مُنعت "فون سوتنر" من المحاضرات، وضحك الجميع من سذاجتها، وهلَّل الجميع للحرب، وخذلها أقرب الناس إليها، ووضعت تحت الإقامة الجبرية، وماتت قبل طلقات "جافريلو برنسيب" على الأرشيدوق النمساوي في سراييفو بسبعة أيام في 21 يونيو من عام 1914.
أما السيدة "أوانج سا سو كايا" البورمية البالغة من العمر ستين عاما فشكلها النحيف يذكر بالمهاتما غاندي، إذ ترتسم على وجهها علامات الخشوع والهدوء، وبعد أن خرجت من الاعتقال الإجباري في بيتها بعد 19 شهرا أجرت معها مجلة "در شبيجل" الألمانية مقابلة وسألتها: من أين لك كل هذه القوة في مواجهة حكومة العساكر؟ قالت: أنا مؤمنة.
إن قصة النساء المكافحات للسلام تظهر بأجلى صورة في قصة ملكة سبأ، وهي نصوص ذكرها القرآن عن امرأة في غاية الذكاء والحكمة، استطاعت أن تطوق الصراع المسلح مع سليمان، بحكمة اقتربت فيها من حكمة النبي، ففي الوقت الذي هدد سليمان عليه السلام بإرسال جنود لا قبل لهم بها وليخرجنهم منها أذلة وهو صاغرون، كانت بلقيس تقوم بإطفاء نار الحرب من خلال الرسل والهدايا، ثم تذهب بنفسها لمقابلته، وتعتنق الدين الجديد حبا في العدل أكثر من الخوف من جيوش جرارة من الجن والإنس والطير فهم يوزعون.
هذا الأسلوب الهادئ البسيط هو الذي يكسر أشد القوانين جبروتا وتيبسا، ولكنَّ بيننا وبين الفهم سنة ضوئية.