في الصراع الدائر اليوم في معظم بلدان العالم العربي من أجل التغيير، برزت إشكالية العلاقة بين العوامل الداخلية والخارجية كما لم يحصل في أي تجربة تحول ديمقراطي من قبل. والسبب في ذلك هو الطبيعة الاستثنائية للتدخل الخارجي الذي تعرضت له بعض بلدان المنطقة، كما حصل في أفغانستان والعراق من جهة، والضعف الذي تعاني منه قوى التغيير الداخلي من جهة أخرى. فبقدر ما يشجع هذا الضعف على التطلع نحو مزيد من الدعم الخارجي لحركة الإصلاح، يجعل النخب الحاكمة تدرك بشكل أكبر خطر الضغوط الخارجية التي يدفعها الخوف من عواقب الانسدادات الطويلة الحاصلة، وما تخلفه من حصر وضغوط داخلية تهدد بالانفجار، إلى العمل لأول مرة لصالح التغيير، بعد أن عملت لعقود طويلة لصالح الاستقرار وترسيخ النظم والقوى الحاكمة. وهكذا لم يكن من المستغرب ولا من غير المتوقع أن تعمد النخب العربية الرسمية إلى تركيز النقاش حول الإصلاح والتحول الديمقراطي حول مسألة الضغوط الخارجية، وأن تجعل من وقف هذه الضغوط ومن رفض قوى المعارضة التعامل معها قاعدة لاستراتيجية جديدة للحفاظ على الوضع القائم. فهي تأمل أن تضرب من خلال ذلك عصفوين بحجر واحد: تحييد الضغوط الأجنبية عن طريق إثارة المشاعر الوطنية والقومية المعادية للتدخلات الأجنبية، وعزل قوى التغيير الداخلي عن حلفاء محتملين لها في مهمتها الصعبة من أجل تعديل موازين القوى والتأثير على مجريات الأحداث في ساحة عملها الوطنية. وبتحررها من الضغوط الخارجية والداخلية تستطيع السلطات القائمة أن تضبط مسيرة التغيير على رزنامتها الخاصة، أي بما يضمن لها إعادة تسويق نفسها في النظام العالمي الجديد والاندماج في السوق العالمية، من دون أن تضطر إلى تقديم تنازلات للمجتمعات. وهو ما يعني في الواقع ضمان قدرتها على الانتقال من نظام الاقتصاد المغلق إلى نظام السوق الجديدة، مع الاحتفاظ بالاحتكار الكامل لعوامل السلطة والثروة والمعرفة معا، وبالتالي لموقعها الاجتماعي المتميز والمتفوق، الذي حولها بالفعل إلى طبقة أرستقراطية.
ومن الواضح أن النخب الحاكمة قد نجحت إلى حد كبير، من خلال استغلال تمسك الرأي العام العربي الشديد بمبادئ الاستقلال والسيادة ورفض الارتهان لمصالح أجنبية، في تحويل التدخلات والضغوط الخارجية إلى قميص عثمان، والاستفادة من التلويح به لتبرير الهرب من عملية التغيير والإصلاح. وهكذا جعلت منه أداة لابتزاز سياسي دائم يهدف إلى عزل قوى المعارضة الديمقراطية عن الخارج وحرمانها من إمكانات التضامن العالمية حتى يسهل عليها حصارها وإخضاعها. واستخدمت المطابقة بين التدخلات الأجنبية وكل ما له علاقة بالخارج، وسيلة لإحداث قطيعة نفسية وسياسية كلية بين الشعوب العربية والمجتمعات الأخرى، ومنطلقا لتعبئة مشاعر عصبوية بدائية ترفض أي تعاون خارجي، باسم خصوصية ثقافية تجمع بين التجريد المطلق والعبثية السياسية.
يشكل الخلط بين ما هو خارجي، مهما كان، وما هو أجنبي معادٍ وعدو، ووضعهما في سلة واحدة، خطأ فكريا وسياسيا كبيرا، على المديين المنظور والبعيد معا. فبتغذيته مشاعر الخوف واليأس والانطواء على النفس، وتشجيعه على التشكيك بكل ما يأتي من الخارج، واتهام من يختلط به أو يتعامل معه بالانتماء للأجنبي والانحراف عن الفكرة الوطنية، يهدد هذا الخلط قدرة المجتمعات العربية على التعامل مع العالم والنجاح في الدفاع عن مصالحها فيه. ولا يمكن لأي دولة ولا أي وطنية أن تعيش في هذا العالم مع الاحتفاظ بمثل هذا التعميم الفاسد ومن دون التمييز بوضوح بين خارج وخارج. فإذا كان هذا الخارج مليئاً بالفعل بالقوى التي تتبع سياسات استعمارية، فهو غني أيضا بقطاعات واسعة من الرأي العام والهيئات والمنظمات الدولية التي تؤمن بقيم التضامن والحرية والعدالة والمساواة، وتدافع عن مبادئ التعايش السلمي والتبادل المثري. وإلى جانب المنظمات والتحالفات العدوانية التي تطبق المعايير المزدوجة، هناك العديد من الهيئات والمنظمات المدنية التي تعنى بقضايا الشعوب الضعيفة والمضطهدة وتدافع عن حقوق الإنسان وقيمها الأصيلة، التي يشكل ضربها أو التنكر لها خسارة إنسانية كبرى. ولا نستطيع أن نطلب من العالم أن يقف إلى جانب قضايانا العادلة إذا كنا نرفض بالأصل هذه المبادئ. وإذا لم يكن بوسعنا استيعاب مفهوم الحق في التضامن عندما يتعلق الأمر بدعم قضايانا فسيكون من الصعب علينا أن نمارس مثل هذا الحق إزاء الشعوب الأخرى المنكوبة التي تحتاج إلى مساعدتنا. وستكون النتيجة خروجنا نحن أنفسنا عن معايير الإنسانية التي نشكو من هدرها من قبل أعدائنا، وبالتالي خروج مجتمعاتنا عن مبادئ الحق والعدل والإنسانية.
وبالمثل، إذا لم يكن العالم أو الخارج مكونا من حكومات فحسب وإنما هو غني بالقوى والهيئات ذات الأهداف الإنسانية، فليست جميع الحكومات في العالم ذات نوايا عدوانية، لا تفكر إلا في حرمان الدول الضعيفة من السيادة ونزع الاستقلال عنها ونهب ثرواتها الباطنية. فإلى جانب الحكومات والدول التي تحمل في