التركيز على نشر الثقافة الاقتصادية في مجتمعنا، بات مسألة بالغة الحيوية، في ظل هذا الاتجاه المحموم نحو المضاربة في أسواق الأسهم، بعد أن تحوّلت قاعات التداول إلى ما يشبه "الفانوس السحري" الذي يسعى مئات الآلاف إلى فك شفرته وتحقيق حلم الثراء المفاجئ. التجربة لدينا -وفي معظم دول "التعاون"- ما زالت تشير إلى وجود أوجه قصور عديدة، بعضها يخص الجهات الرسمية المعنية بإدارة أسواق الأسهم، وبعضها الآخر يتعلق بالمضاربين من صغار المستثمرين، فالكثير منهم يغامر بمدخرات عمره، أو يقترض أموالاً ضخمة من البنوك، أو يبيع ما يمتلك، أو يقترض بضمان عقار يسكنه، أو ذهب يكتنزه الأهل كـ"احتياطي أجيال" في مواجهة مفاجآت الزمن، ويتوجه إلى قاعات التداول من دون أدنى معرفة بأبجديات التعامل.
ومن بين المتغيرات الأخطر في المسألة برمّتها، أن وسائل الإعلام تلعب دورا بارزا في نتائج الأداء والمضاربات، سواء بقصد أو من دون قصد، إذ يبدو واضحا أن شريحة عريضة من صغار المستثمرين تراهن على صدقية ما تتلقّاه من أخبار أو تصريحات أو تحليلات إعلامية تتعلق بالأداء في أسواق الأسهم، والغريب في هذه المسألة أن صدقية المواد الإعلامية الاقتصادية تتجاوز بمراحل نظيرتها السياسية في إعلامنا العربي، وهذه ملاحظة أو فرضية تحتاج إلى تدقيق منهجي، ولكنها غريبة ولافتة، فالإعلام الذي يعاني تدني صدقيته السياسية يلعب دورا مؤثرا في تشكيل الاتجاهات وبلورة القناعات في أسواق الأسهم!!.
المهم في هذه المسألة هو التأكيد أن أسواق الأسهم ليست شرا مستطيرا، بل هي نافذة طبيعية للاستثمار، شريطة الالتزام بمعايير المهنية والتدقيق والشفافية والمكاشفة والمحاسبة، وقبل ذلك كله، أن يجيد المضاربون أبجديات التعامل معها، وهذا لن يتأتى سوى عبر إعلام اقتصادي شفاف وموضوعي، وهذه الجزئية بالغة الأهمية في ضوء ما سبق طرحه بشأن دور الإعلام وموقعه في توجيه بوصلات المضاربين ومواقفهم وقناعاتهم، كما أن غيابه يؤدي بالتبعية إلى تزايد الشائعات والأخبار المضللة. ومن ثم ينبغي أن نركز على تطوير وسائل إعلام اقتصادية متخصصة، وتحديدا فيما يتعلق بالصحافة الاقتصادية، التي يُلاحَظ تراجعها نوعيا، مقارنة مثلا بظهور قنوات تلفزيونية اقتصادية متخصصة عديدة، ويلاحظ أيضا أن الصحافة الاقتصادية الخليجية لم تزل تدور في فلك الاستهلاك دون إنتاج المادة الإعلامية المتخصصة، وتتغذى على ما تنتجه وكالات الأنباء الدولية والمؤسسات والمجلات الاقتصادية الدولية المتخصصة دون الانتقال إلى إنتاج، ناهيك عن غياب الموضوعية والتجرد المهني ولو بشكل نسبي، والسقوط في فخ المزاوجة بين الإعلام والدعاية، ونشر الأخبار الموجهة في كثير من الأحيان، سواء بقصد أو من دونه، ولكن النتيجة واحدة وهي أن الجمهور يسقط في "الفخ" وقد يتحول إلى ضحية لهذه الممارسات.
"حمّى البورصات" لا تقتصر على دول الخليج، ولكنها في كثير من دول العالم المتقدم محكومة بثقافة اقتصادية جعلت منها وسيلة لكسب العيش وتنمية الثروات، والفيصل في ذلك كله هو وجود بيئة عمل شفافة وقواعد واضحة وصارمة وامتلاك ثقافة اقتصادية تؤهل المضاربين للتربح لا تبديد الثروات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن نشرة "أخبارالساعة" الصادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية