أشرت في المقالة السابقة إلى جسامة التهديدات غير المسبوقة التي تحدق بالأمن العربي في الوقت الراهن، وإلى أن الساحة اللبنانية تبدو واحدة من البؤر التي يبدو فيها الخطر واضحاً، واستدركت رغم ذلك بالقول إن الصورة لا تبدو مطلقة القتامة، واستشهدت ضمن ما استشهدت به من الحالة اللبنانية بالحوار الوطني غير المسبوق الذي كان قد دشن منذ أيام قليلة، لكن الحوار بدا في خطرٍ حقيقي بعد ذلك إلى الحد الذي دفع واحداً من الساسة اللبنانيين للقول بأن "لبنان في العناية الفائقة بكامل مؤسساته".
والمفارقة أن الحوار بدا في خطر مع أن "لبنان الحقيقي" يريد له أن ينجح بعيداً عن المصالح الضيقة لفئة بعينها من الساسة، فمعظم القيادات السياسية يؤكد على أنه لا بديل عن نجاح الحوار، وأن الفشل يجب ألا يكون وارداً على جدول الأعمال، وإذا نحينا جانباً تصريحات هذه القيادات باعتبار أن بعضها على الأقل قد يقول بلسانه ما ليس في قلبه من باب المناورة السياسية فما القول في لغة أهل الاقتصاد الذين صدر باسمهم كتاب وجهته جمعية مصارف لبنان معتبرة أن "تبعات هذا الفشل في حال حصوله ستقع على القيادات السياسية من دون استثناء"؟ بل أيضا أكد اتحاد غرف التجارة والصناعة في لبنان في كتاب مماثل أن "الفشل سيعني وصول لبنان إلى كارثة حقيقية". أما رجل الشارع العادي في لبنان فلا يتصور أصلاً أن تحدث انتكاسة لما بني في لبنان بعد توقف الحرب الأهلية لأنه سيكون أول من يدفع ثمنها، وكم كان المشهد بالغ الدلالة بالنسبة لي حين شاهدت مؤخراً جمعاً من اللبنانيين في مكان عام يتابعون على شاشة التليفزيون تغطية لمهاترات لفظية بين عدد من "زعمائهم" السياسيين ثم ينصرفون لحظات قليلة وهم يعبرون عن ضجرهم من هذه الفئة التي تريد أن تضيع وطناً لحساب مصالحها الضيقة.
لماذا بدا الحوار في خطر مع أن "لبنان" يريد له أن ينجح؟ هو في خطر لأن مسائله شائكة تتعلق في التحليل الأخير بإعادة بناء ميزان القوى السياسي الداخلي في لبنان بعد رحيل القوات السورية عنه، وكذلك بإعادة ترتيب علاقات لبنان مع محيطيه العربي والإقليمي وفي القلب منهما سوريا، وبناء على هذا كله إعادة ترتيب علاقاته الدولية، وكلها عمليات بالغة التعقيد والمشقة تتم في ظل ظروف دولية ضاغطة تتبنى فيها "الدولة العظمى" وعدد من الدول الكبرى الحليفة لها أو على الأقل المجارية لسياستها نهجاً هجومياً يهدف إلى تحقيق مصالحها الأنانية. فكيف لهذا البلد الصغير حجماً والمهم موقعاً والكبير إنجازاً ورمزاً أن يُفلت مما يُراد له؟
والواقع أن إمعان النظر في قضايا الحوار اللبناني يظهر أنها جميعاً قابلة للحل ولو بصعوبة فائقة، وأن التوصل إلى قواسم مشتركة بشأنها وتحقيق وفاق وطني عليها ليس من رابع المستحيلات، فثمة توافق وطني فيما يتعلق بجريمة اغتيال الرئيس الحريري على ضرورة التوصل إلى كشف الحقيقة بشأنها، ويمكن أن يمتد هذا التوافق إلى القبول بفكرة المحكمة الدولية إن توفرت مقومات اتهام "قانوني" وليس "سياسياً" ومحكمة نزيهة بالمعايير المهنية. أما سلاح المقاومة فإن الطعن بعدم لبنانية مزارع شبعا، يمكن أن يواجه بالدراسات القانونية والتحركات السياسية حتى يتم تثبيت أو عدم تثبيت لبنانية المزارع وبعدها يكون لكل حادث حديث. وحتى المحاولات الراهنة لخلع رئيس الجمهورية من الواضح أنه يمكن التعامل معها عبر الحوار بين كافة الأطراف المؤيدة والمعارضة بما يجنبها شبهة النهج الانقلابي لصالح فئات بعينها في الساحة اللبنانية، ويجعل القضية جزءاً من المحاولة الأعم لتعزيز التلاحم ومن ثم الاستقرار في الكيان اللبناني.
لا يعني ما سبق أن الحوار سهل بطبيعة الحال –وإلا ما كان قد توقف أصلاً- ولا يعني الاستخفاف بتعقد قضاياه فهي تصب –كما سبقت الإشارة- في عملية إعادة بناء ميزان القوى السياسي الداخلي في لبنان في ظل المتغيرات العالمية والإقليمية والعربية الراهنة، لكن القصد هو القول بأن نجاحه ليس مستحيلاً وأن ثمرته ممكنة، خاصة وأن القوى الشعبية والفعاليات الاقتصادية تدعمه.
يبقى أن الشيء الوحيد الذي لا يمكن التسامح معه في الحوار هو وجهة النظر التي لا تخجل من التصريح بطلب الاستقواء بالخارج –وبالذات الولايات المتحدة الأميركية- ضد الغير، وبالتحديد النظام السوري، لفرض عقوبات اقتصادية ودبلوماسية عليه، وهو ما يفتح الباب لاحقاً بكل تأكيد لإمكانية الحديث عن التدخل العسكري الأميركي، ولن نحاول محاسبة أصحاب هذه الآراء على التراجع عن مواقف سابقة كانوا يؤكدون فيها -على نحو أكسبهم احترام المخالفين لهم- أن لبنان لا يمكن أن يكون جزءاً من أي مشروع للنيل من سوريا!
من الناحية النظرية يجب أن يكون واضحاً أن أي تدخل خارجي مؤثر لا يمكن أن يجيء إلا من الأقوى الذي لابد وأن يكون ميزان القوى المادية مختلاً لصالحه على نحو يمكنه من إحداث التأثير المطلوب، وهذا القوي –كما تثبت الخبرة التاريخية في كل العصور- لابد أن يترجم تفوقه في القوة المادية إلى نفوذ سياسي