مثلت الزيارة التي قام بها الرئيس الأميركي جورج بوش إلى نيودلهي انعطافة استراتيجية في العلاقات بين القوتين، حيث جاءت لتكسر الندرة التي ميزت زيارات الرؤساء الأميركيين إلى الهند في الماضي. فقبل الزيارة الحالية لجورج بوش لم يزر الهند من قبل سوى الرئيس بيل كلينتون سنة 2000، والرئيس دوايت إزنهاور سنة 1959. وبالرجوع إلى التاريخ القريب، وتحديداً إلى فترة الحرب الباردة نجد أن الهند رغم تزعمها لدول عدم الانحياز، فقد طورت علاقات استراتيجية متقاربة مع الاتحاد السوفييتي السابق الذي كان مزودها الرئيسي فيما يخص العتاد العسكري والأسلحة التقليدية. ونظراً لهذا التقارب الذي كان سائداً بين نيودلهي وموسكو شهدت العلاقات الهندية- الأميركية فتوراً دام لفترة طويلة. لكن ما أن وضعت الحرب الباردة أوزارها وانهار الاتحاد السوفييتي حتى وجدت الهند نفسها مضطرة لتغيير توجهها والبحث عن هوية جديدة، خصوصاً في ظل عالم جديد لم يعد فيه من مبرر لوجود حركة عدم الانحياز بعد انتهاء الاستقطاب التقليدي بين الغرب والشرق.
وعلى ضوء هذه المتغيرات لم يعد مجدياً اعتماد الهند على محور موسكو، ولم يعد أيضا مفيداً التشبث بعدم الانحياز ما دام المفهوم نفسه تغير، وأصبح العالم النامي الذي كانت الهند تتطلع إلى قيادته منقسماً بين دول نجحت في عملية التصنيع، وأخرى غنية بمواردها الأولية، وثالثة ترزح تحت وطأة الفقر والإخفاق الاقتصادي.
ويضاف إلى كل ذلك بروز الصين كقوة عالمية وانطلاقها منذ عدة سنوات في عمل دؤوب لتحديث هياكلها الاقتصادية والإصرار على الصعود وتبوؤ مكانتها العالمية. وأمام الواقع العالمي الجديد قررت الهند فتح اقتصادها والبحث لنفسها عن موطئ قدم على الساحة الدولية. وسرعان ما قادتها سياسة التحرير الاقتصادي إلى احتلال المرتبة السادسة عالمياً ما جعلها وجها لوجه إزاء الولايات المتحدة. وقد أدركت الهند مبكراً أن سبيلها إلى التقدم يمر بالضرورة عبر المحطة الأميركية التي لا مناص من التقارب معها تحقيقا لهدف الإقلاع الاقتصادي المأمول. بيد أن التطلع إلى لعب دور عالمي وانتزاع موقع بين القوى العالمية الكبرى حتم على الهند إثبات نفسها في المجال النووي، وهو ما دفعها إلى الانخراط في مجموعة من التجارب النووية وصلت أوجها سنة 1998. وقد أدت هذه التجارب إلى عودة الفتور في العلاقات بين نيودلهي وواشنطن، لاسيما وأن هذه الأخيرة كانت تضع سياسة حظرالانتشار النووي في صدارة أولوياتها. غير أن ما تلا أحداث 11 سبتمبر أعاد الأمل إلى الهند مرة أخرى في إقناع الأميركيين بقطع علاقاتهم مع باكستان بذريعة الانخراط في جبهة موحدة تحارب الإرهاب الإسلامي الذي لا يفرق بين الولايات المتحدة والهند. لكن باكستان استبقت الخطوة الهندية، فتنكرت لنظام "طالبان"، وعرضت تعاونها مع الولايات المتحدة للإطاحة به مما عزز من موقف إسلام أباد في الحرب على الإرهاب وفي الشراكة مع واشنطن.
ومع ذلك تمتلك الهند عدة نقاط تخدم مساعيها للتقارب مع أميركا، يأتي في مقدمتها وجود جالية هندية ناجحة ومندمجة في المجتمع الأميركي، بالإضافة إلى ما تشكله الهند من سوق تجارية واعدة تتوفر على أيد عاملة مؤهلة ورخيصة وتتحدث اللغة الإنجليزية. وبالرغم من أن الهند تضم ثاني أكبر مجموعة من السكان المسلمين في العالم بعد إندونيسيا، حيث يصل عددهم 160 مليون نسمة، فإنها تعتبر ضمن الدول القليلة في العالم التي يتمتع فيها الأميركيون بصورة إيجابية في الأوساط الشعبية. فقد أفاد استطلاع للرأي أجراه مركز "ريزيرش بيو" أن 71% من المستجوبين أعربوا عن مواقف إيجابية لصالح أميركا. ويبقى العامل المهم الذي يمكن أن يسرع في التقارب الهندي- الأميركي هو رغبة واشنطن في موازنة صعود الصين بقوة الهند، وهي العملية ذاتها التي مارستها الولايات المتحدة مع الصين ضد الاتحاد السوفييتي أثناء الحرب الباردة في 1971. ولا ننسى أيضاً أن الهند تتمتع بعلاقات جيدة مع إسرائيل التي تعتبر المزود العسكري الثاني للهند بعد إقامة علاقات دبلوماسية بين الطرفين سنة 1992. أما موقف الهند كعضو في دول عدم الانحياز الذي كان دائما يدافع عن القضية الفلسطينية، فقد أصبح اليوم أقل حدة من ذي قبل.
وبالرغم من سعي جورج بوش إلى تعديل بعض مقتضيات التشريع الأميركي الذي يحظر التبادل التكنولوجي مع البلدان التي لم توقع على معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، فإن الولايات المتحدة لم تعد تؤمن كثيراً بجدوى المعاهدة نفسها مفضلة أن تتعامل مع كل حالة على حدة، وليس على أساس المعاهدة الدولية. وفي هذا الإطار، أدركت الولايات المتحدة أنه لم يعد ممكناً إقناع نيودلهي بالعدول عن برنامجها النووي، بعدما قطعت أشواطا متقدمة على طريق إنجازه. لكن مع ذلك على الهند ألا تعلق آمالاً عريضة على تقاربها مع واشنطن، خصوصا وأن الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة لم يدخل بعد حيز التنفيذ ومازال معلقا بقرار الكونجرس الأميركي الذي يمكن أن يرفض الاتفاق ليعيد التطلعات اله