منذ إنشاء دولة إسرائيل في عام 1948, دأب قادتها على "توخي الحذر" من ترسيم حدودها النهائية, على أمل توغل وانبعاج مستمر لهذه الحدود, إلى مسافات أبعد داخل الأراضي العربية الفلسطينية. وكما قال لي إسحاق شامير رئيس الوزراء اليميني الأسبق ذات مرة "فنحن دولة صغيرة ولا نزال بحاجة إلى المزيد والمزيد". ولقد كان هذا الظمأ الذي لا يرتوي للأرض, عاملاً رئيسياً وراء تكرار كافة القادة الإسرائيليين, بمختلف انتماءاتهم الحزبية وألوانهم السياسية, بأنه لا سبيل مطلقاً لعودة دولتهم إلى حدودها السابقة لحرب عام 1967. بقي أن نقول إن حدود ما قبل 67 نفسها, قد اقتطعت لإسرائيل نسبة 78 في المئة من الأراضي الفلسطينية, تاركة بذلك نسبة 22 في المئة فحسب من الأراضي لأهلها وأصحابها الأصليين!
وعلى رغم هذه القسمة المجحفة والبعيدة كل البعد عن العدالة, أبدى الفلسطينيون -بل والعرب قاطبة- استعدادهم لقبولها في لقاء تاريخي, عقد في شهر مارس من عام 2002 في العاصمة اللبنانية بيروت, تم فيه التعبير عن الاستعداد لمقايضة الأمن والسلام وتطبيع العلاقات مع إسرائيل, فيما لو انسحبت وتراجعت هذه الأخيرة إلى حدودها السابقة لحرب عام 1967. غير أن الذي حدث هو تمسك إسرائيل بموقفها الرافض للانسحاب إلى حدود ما قبل الحرب, مما يعني رفضها لهذا العرض العربي جملة وتفصيلاً. وليس ثمة غرابة في هذا الموقف, طالما أن الأرض ظلت دائماً أكثر أهمية بالنسبة لإسرائيل من السلام.
ولكن ها هي تل أبيب تنقلب على سياساتها السابقة في هذا الشأن لأول مرة في تاريخها, وذلك من خلال التصريح الذي أدلى به مؤخراً إيهود أولمرت رئيس الوزراء الحالي بالإنابة, الذي أكد فيه عزمه على ترسيم الحدود النهائية لدولته, فيما لو فاز حزبه "كاديما" -حزب يمين الوسط- في الانتخابات الإسرائيلية العامة, المتوقع إجراؤها في الثامن والعشرين من شهر مارس الجاري, علماً بأن هناك تكهنات واسعة باحتمال فوزه بها.
ولما كان في تصور أولمرت, إجراء قسمة إضافية على نسبة الـ22 في المئة المتبقية من الأراضي للفلسطينيين, فإن ذلك يعني أنه ينوي أن يتراوح نصيبهم النهائي من أراضيهم ما بين 10 إلى 12 في المئة فحسب. بل وأن يتم تقسيم هذه المساحة الصغيرة المتبقية نفسها, إلى كانتونات تحيط بها إسرائيل إحاطة السوار بالمعصم, إلى جانب اقتطاع جزء من الشق الفلسطيني من مدينة القدس الشرقية.
وفي الوقت الذي ربما يكون فيه قد تبخر حلم إقامة دولة "إسرائيل الكبرى" الممتدة من البحر الأبيض المتوسط وحتى نهر الأردن, إلا أن حلم إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة, قد قبر وقضي عليه هو الآخر, بموجب هذا التصور الإسرائيلي التوسعي, الذي لا يترك مساحة صالحة من الأرض للإعلان عن قيام دولة كهذه, فيما لو ترجم مخطط إيهود أولمرت إلى حقيقة وواقع. ففي لقاء صحفي معه, نشرته صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية في عددها الصادر بتاريخ 10 مارس الجاري, قال أولمرت ما يلي: "إنني أعتقد أنه وفي غضون الأربع سنوات المقبلة, سيكون في وسع إسرائيل تحقيق انفصالها التام عن الفلسطينيين, داخل حدود جديدة, عقب تعديل الجدار الأمني الحالي إلى جدار حدودي دائم, يمثل الخط الحدودي لدولة إسرائيل. وربما استدعى هذا التعديل, تحريك الجدار شرقاً في بعض الأحيان, وتحريكه غرباً في أحيان أخرى, حسب الخط الحدودي الذي سيتم الاتفاق عليه. ولسوف نتخذ خطوة حاسمة باتجاه تشكيل دولة إسرائيل بوصفها دولة يهودية, تكون فيها الغلبة الساحقة والقارة لليهود, الذين لا تهدد وجودهم أية مخاطر كانت".
ومضى أولمرت مستطرداً في القول إن هذه الحدود الجديدة لدولة إسرائيل, سيتم ترسيمها بالاتفاق والتشاور مع المستوطنين. والملاحظ أن أولمرت لم يشر ولو عن طريق السهو, إلى حوار أو تشاور مع الفلسطينيين, ولا إلى الدولة الفلسطينية. ويعني هذا أنه سيتم ترسيم هذه الحدود أحادياً من جانب إسرائيل, بدعم من الولايات المتحدة الأميركية. ذلك هو عين ما أشار إليه وعد أولمرت بإجراء حوار جوهري مع ما وصفه بأنه أقوى حليف لإسرائيل, ألا وهو الرئيس بوش. ومن رأي أولمرت أن انسحاب إسرائيل من قطاع غزة, إلى جانب فوز حركة "حماس" في الانتخابات الفلسطينية الأخيرة, قد أسهما معاً في خلق أفضل الظروف وأكثرها ملاءمة لحصول إسرائيل على دعم دولي لترسيم حدودها الجديدة. إلى ذلك أشار أولمرت إلى حسن ومتانة علاقاته الشخصية مع كل من رئيس الوزراء البريطاني توني بلير, ونظيره الإيطالي سيلفيو برلسكوني, والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي جاك شيراك. وقال إنه لا يكاد يمر يوم واحد, دون أن يتبادل معهم الرسائل والردود المشتركة.
هذا وقد أكد أولمرت ضم كافة المستوطنات الكبيرة الواقعة داخل الحدود الفلسطينية إلى حدود إسرائيل, إضافة إلى ضم ما يسميه هو بـ"جيب القدس" إلى الحدود نفسها. ويعني ذلك بالطبع تهجير سكان كافة المستوطنات الواقعة في الأراضي الفلسطينية, إلى داخل الحدود الجديدة للدولة اليهودية. ويشمل الحدي