افتتح أمس الأحد المؤتمر السنوي الحادي عشر لمركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، تحت عنوان: "التحولات الراهنة ودورها المحتمل في إحداث التغيير في العالم العربي"، والذي تشارك فيه نخبة من المفكرين وصناع القرار من المنطقة، والعالم، على مدى ثلاثة أيام، بهدف مقاربة إشكالية التحولات التي تشهدها الدول العربية منذ مطلع الألفية الجديدة. ولاشك أن اختيار موضوع بهذه الدرجة من الأهمية، يعبر عن الرؤية الاستشرافية العلمية الرصينة والدور المستنير اللذين ينهض بهما المركز، باعتباره طرفاً أصيلاً في عملية صناعة المعرفة التي تعد الرهان الأول من رهانات التنمية المستديمة، وشرطاً لابد منه للوقوف بمنطقتنا العربية على شرفة المستقبل، ولرفد صناع القرار فيها بقواعد بيانات معرفية مؤسسة على جهد علمي موضوعي رصين. وقد أثبت المركز من خلال مؤتمراته السابقة، وجهده العلمي المتواصل أن لمجتمع المعرفة، في دولة الإمارات العربية المتحدة، دوراً محورياً يزداد أهمية يوماً بعد يوم، وأنه يحقق مع إشراقة كل شمس قفزات بعيدة إلى الأمام، كما أن وقوف الشباب المواطن وراء تخطيط وتنظيم مؤتمر علمي عالمي بهذه الدرجة من الرقي والأهمية يثبت، في الوقت نفسه، أن مركز الإمارات قد أرسى قواعد عملية توطين تقاليد البحث العلمي، وبشكل منهجي، وحافل بالوعود.
وفيما يخص موضوع التحولات الراهنة ودورها المحتمل في إحداث التغيير في العالم العربي، أعتقد أن التدافع الإيديولوجي والحراك السياسي اللذين تعرفهما أجزاء واسعة من المنطقة العربية، يفرضان أن نتولى نحن مقاربتهما علمياً ووضع أطر التحليل المناسبة لإعطائهما معاني موضوعية، ولوضعهما في سياق مفهوم، بدل أن ننتظر من مراكز البحث الأجنبية دراسة أوضاع تجري في أكثر من مجتمع عربي، نحن الأقدر، على فهم خصوصيته. ويعد المطلب الديمقراطي، ودعوات الإصلاح، والتحديث، في مقدمة القضايا الضاغطة خلال السنوات الأخيرة، على العالم العربي، وربما سيتوقف على طريقة الاستجابة العربية لهذه التحديات، مستقبل المنطقة خلال العقود القادمة.
فعلى مستوى الإصلاح والديمقراطية، وعلى رغم التقدم الحاصل في أكثر من دولة عربية، ما زالت محاولات الإقلاع الديمقراطي تتعثر بتحديات لا حصر لها، في مقدمتها قفز جماعات الإسلام السياسي إلى الواجهة، وقدرتها، في كل مرة، على ركوب موجة العملية الديمقراطية، حتى لو كان ذلك، من وجهة نظر البعض، بهدف وأد الديمقراطية نفسها، متى ما توافرت فرصة لذلك. ولعل، قدرة تلك الجماعات على تحقيق مكاسب تكتيكية انتخابية، كما نرى الآن، تعود إلى رفعها شعارات، تدغدغ مشاعر قطاعات واسعة من الشارع، مثل "الإسلام هو الحل"، و"البديل الإسلامي".. إلخ. والحالتان المصرية من خلال مشاركة "الإخوان" في الانتخابات الأخيرة، والفلسطينية بعد فوز "حماس" في الانتخابات الأخيرة أيضاً، تصلحان مثالين، على ما أشرنا إليه أعلاه. ويضاف إلى هذا التحدي، لمحاولات الإصلاح ومساعي تسليك الديمقراطية في المنطقة، تحدٍّ آخر، لا يقل إثارة، هو التجاذب بين الجهود الذاتية العربية الرامية إلى الإصلاح من الداخل، والضغوط المتعاظمة من الخارج، التي يأتي الضغط الأميركي في مقدمتها، بكل ما يمتلكه هذا الضغط من إمكانية استثارة حساسية بعض القطاعات المؤثرة في الداخل، مُسبقاً. ولئن كان من غير المفهوم للبعض، بالقدر الكافي، الطريقة التي أصبح بها الإصلاح الداخلي العربي، مصلحة من مصالح الخارج الغربي، فإن تضرر أطراف دولية، وعربية أيضاً، من موجة العنف والتطرف، التي تصدِّرها جماعات محسوبة على المنطقة العربية والإسلامية، هو ما يعطي هذه الحالة السياسية المعقدة معناها الموضوعي، ومبرراتها العملية.
وعلى العموم، فإن مؤتمر مركز الإمارات، سيكون فرصة لا تعوض، لمقاربة أزمات المنطقة من تنامٍ للتطرف والإرهاب في بعض الدول العربية، ومطالبات بالتحديث والإصلاح كمطلبين تنمويين في دول أخرى، والتحكم بأكثر الطرق علمية وعقلانية، في الطفرات الاقتصادية والتنموية الواعدة، التي تمر بها دول بعينها، بغية جعلها تحقق الأهداف المرجوة، وبمسارات مأمونة، وبأقل الأعراض الجانبية الممكنة. ولاشك أن إضاءة مثل هذه الموضوعات، بالمقاربة العلمية المنهجية، تضيف إلى رصيد المركز، وتثبت مرة أخرى ومرات، قدرته على تحقيق الإنجاز، تلو الإنجاز، وعلى الاستجابة، بأنجع الطرق، لتحديات اللحظة، ولنداء المستقبل المنشود.