أثار قرار إحدى الجمعيات الخيرية في بريطانيا، العاملة في مجال الصحة العقلية، بتدشين تمثال من البرونز و"الفيبرجلاس"، لرئيس الوزراء السابق "ونستون تشرشل" مرتديا سترة المجانين، عاصفة من الغضب والانتقادات، من قبل المؤرخين وأفراد عائلته على حد سواء. حيث وصف "نيكولس سوماس"، حفيد ونستون تشرشل عضو البرلمان البريطاني عن حزب "المحافظين"، التمثال بأنه (فكرة سخيفة ومثيرة للاشمئزاز). وفي نفس الوقت صرح أحد المسؤولين عن إحدى الجمعيات التاريخية، بأن إظهار تشرشل بهذه الصورة، يعتبر إهانة مباشرة لذكرى واحد من أهم أبطال التاريخ البريطاني الحديث. هذه الآراء والتعليقات جميعها، يرى المسؤولون عن الجمعية الخيرية، أنها ناتجة عن الخطأ في تفسير فكرة التمثال والمغزى منه. فالمعروف أن تشرشل كان يعاني من نوبات من الاكتئاب الحاد، على حد اعترافه هو نفسه. وهذا ما جعل من المعتاد في ممارسات المعالجين النفسيين خلال العقود الماضية، الإشارة لمرض تشرشل، بغرض التخفيف على المصابين بالاكتئاب، وطمأنتهم إلى أن هذا المرض يصيب أيضا العظماء. وهو بالتحديد ما أرادت الجمعية الخيرية تحقيقه من وضع تشرشل في سترة للمجانين، بمغزى تأكيد أن الأمراض العقلية تصيب الناس العاديين والعظماء والعباقرة أيضا. وإن كان البعض سيختلف حول ما إذا كان مرض تشرشل، قد وصل به إلى مصاف المجانين. هذا الجدل الدائر حول تمثال لا يتعدى طوله الثلاثة أمتار، نصب في مدينة صغيرة بشرق بريطانيا، يظهر مرة أخرى السمة الاجتماعية والنظرة السلبية للأمراض العقلية، ووصمة العار التي تصِم المصابين بها في نظر البعض. وإذا كان تمثال تشرشل قد أثار قدرا لا بأس به من التراشق اللفظي، فالأكيد أيضا أنه قد نجح في تحقيق الهدف من وراء نصبه، وهو جذب الاهتمام الإعلامي والاجتماعي لمأساة ضحايا الأمراض العقلية.
فبداية، وعلى عكس ما يعتقد الكثيرون، لا تقتصر الإصابة بالأمراض العقلية على المجانين من نزلاء السرايات الصفر، بل تنتشر بين أفراد المجتمع ككل إلى حد كبير. ففي الولايات المتحدة مثلا، ووفقا لإحصائيات مفوضية حكومية تابعة لإدارة الرئيس الأميركي، تحتل الأمراض العقلية الخطيرة مثل الاكتئاب الحاد والشيزوفرينيا والوسواس القهري، رأس قائمة الأسباب المؤدية للإعاقة الإنسانية، حتى إذا ما قورنت بأمراض أخرى خطيرة مثل السرطان وأمراض القلب والشرايين. وحسب الاتحاد الوطني للمرضى العقليين في الولايات المتحدة (National Alliance for the Mentally Ill)، يصاب في العام الواحد 23% من الأميركيين البالغين بمرض عقلي ذي أعراض واضحة. وإن كان لدى أقل من نصف هؤلاء، تبلغ الأعراض درجة من الحدة تتسبب في إعاقتهم عن ممارسة نشاطاتهم اليومية الاعتيادية. وإذا ما أخذنا هذه الأرقام والإحصائيات كمقياس -وإن كان مقياساً غير دقيق علميا- فيمكننا أن نستنتج وجود عشرات الملايين من أفراد الجنس البشري المصابين بأمراض عقلية.
ويعرف المجتمع الطبي الأمراض العقلية على أنها اضطرابات في المخ، تؤدي إلى اختلال في قدرة الشخص على التفكير وعلى الإحساس، مع اضطراب في مزاجه، وقدرته على العمل وعلى التواصل مع الآخرين في محيطه الاجتماعي. هذا التعريف يختلف عن المصطلحات الشائعة للعقل والجنون، والتي هي في حقيقتها مصطلحات قانونية وليست طبية. ولا يمكن أن نعزو الأمراض العقلية لسبب واحد، حيث تختلف وتتنوع هذه الأمراض من حيث الأعراض والعلامات إلى حد كبير. وعلى الرغم من أن الأمراض العقلية المختلفة تنتج غالبا من أسباب مختلفة، إلا أنه يمكن تقسيم هذه الأسباب بشكل عريض إلى أسباب عضوية وأسباب كيميائية- عصبية، وإن كان هذا التقسيم لا يجدي كثيرا في حالة الأمراض التي لا يعرف سبب فسيولوجي محدد خلفها. وهو ما يثير الجدل والنقاش حول ما إذا كانت الأمراض العقلية، هي نتيجة عوامل وراثية أم ظروف بيئية، ويدفع البعض للتشكيك في طبيعتها من الأساس، زاعمين أنها لا تزيد على كونها مظاهر لاضطرابات نفسجسمانية (psychosomatic). وإضافة إلى الاختلاف حول طبيعة الأمراض العقلية، وأسبابها الوراثية أو البيئية، ومدى فعالية الأساليب العلاجية المستخدمة مثل العقاقير الكيميائية أو جلسات العلاج النفسي، تصطدم الأمراض العقلية أيضا بمشكلة القولبة السلبية. فبسبب الاعتقاد الخاطئ بأن المريض العقلي يمكنه التحكم في أعراض مرضه، مثل مظاهر الاكتئاب أو أعراض السلوك القلق، ينظر الكثيرون للمرضى العقليين على أنهم أشخاص ضعاف الإرادة، لينو العزيمة. هذه النظرة هي بالتحديد ما تحاول المنظمات الأهلية والجمعيات الخيرية تغييره، بما في ذلك الجمعية المسؤولة عن تمثال ونستون تشرشل سيئ السمعة. وتتبع هذه الجمعيات والمنظمات عدة استراتيجيات، منها زيادة الإدراك العام بدرجة انتشار الأمراض العقلية بين أفراد المجتمع، بما في ذلك المشاهير والعظماء. وأحيانا أخرى ترسيخ المفهوم القائل بأن الأمراض العقلية، أو التغيرات العقلية في هذه الحالة، هي نوع من الاختلاف الطبيعي في السلوكيات العصبية للأ