أفضل طريقة لفهم إدارة الرئيس بوش وسياساتها هو الاطلاع على ما جاء في المقال ذائع الصيت الذي نشرته "نيويورك تايمز" تحت عنوان "الإيمان واليقين ورئاسة جورج بوش" للكاتب رون سوسكين. وهو المقال الذي أورد فيه الكاتب كيف استخف أحد كبار مستشاري الرئيس بوش بازدراء بالمجتمع القائم على معطيات واقعية. فحسب رأيه، لم يعد العالم كما كان في السابق يستند إلى واقع ثابت بعدما تغيرت الحقائق وتبدلت، وبعدما تحولت "أميركا إلى إمبراطورية تستطيع خلق واقع جديد يلائم أهدافها ومصالحها الكبرى". واللافت أن هذا النوع من التفكير الغريب والخارج عن السياق وجد له صدى في الأسبوع الماضي على يد الرئيس بوش نفسه. فبعدما وظف الرئيس بوش مزاعم تقوم على التهديدات النووية لتبرير اجتياحه للعراق، ها هو اليوم يبرم اتفاقا نووياً مع الهند يمكنها من مضاعفة إنتاجها للأسلحة النووية بأكثر من ثلاث مرات في خرق سافر للاتفاقات الدولية، وفي نكوص واضح عن عقود طويلة من السياسة الأميركية في مجال حظر الانتشار النووي.
لقد أدار الرئيس بوش ظهره لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وأقصاها بجرة قلم تماماً كما أقصى مستشاره الواقع ليضع العالم على مضمار سباق التسلح سواء في آسيا أو في باقي مناطق العالم. وبالنسبة لمنطق الإمبراطورية التي تخلق واقعها الخاص تشكل خطوة بوش واقعاً مقبولاً. لكن ما أصبح مقبولا اليوم كان مرفوضاً في الأمس القريب حيث منعت الولايات المتحدة طيلة عقود من الزمن، بموجب قوانينها ومقتضيات معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، بيع الوقود النووي وباقي المعدات المستعملة لإنتاجه إلى الهند التي امتلكت السلاح الذري من دون أن توقع على المعاهدة. بيد أن إبرام الاتفاق مع الولايات المتحدة قلب تلك السياسات رأساً على عقب، حيث وافق بوش على تزويد الهند بالتكنولوجيا النووية، رغم أن هذه الأخيرة ستستمر في تصنيع الأسلحة الفتاكة في إطار برنامج غير خاضع للتفتيش الدولي. وبالرغم من أن المحاولات السابقة لوقف انتشار الأسلحة النووية خارج أعضاء ما يسمى بالنادي النووي الذي يضم خمس دول هي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين لم تكن دائما فعالة، فإنها استطاعت تحقيق بعض النجاح، حيث لم يمض على طريق التسلح النووي سوى عدد محدود من الدول مثل إسرائيل وباكستان والهند، وربما كوريا الشمالية أيضا.
وتعتبر أهم المبادئ التي ترتكز عليها استراتيجية حظر انتشار الأسلحة النووية الإمساك عن مشاطرة التكنولوجيا النووية مع الدول التي ترفض الالتزام بمقتضيات المعاهدة. لكن ما شهدناه الأسبوع الماضي كان عكس ذلك تماماً، حيث قرر الرئيس بوش منح الهند استثناء يجعلها في حل من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية. وهو الاستثناء الذي دأب الرؤساء الأميركيون على رفضه ابتداء من ريتشارد نيكسون وانتهاء ببيل كلينتون، رغم إلحاح الهند على توقيع الاتفاق منذ أمد بعيد. جوزيف سيرنسيون، مدير حظر الانتشار في معهد كارنيجي يصف الاتفاق بأنه "كارثة حقيقية يخول للهند تصنيع ما تشاء من المواد النووية، والأكثر من ذلك ستزود أميركا مفاعلاتها المدنية بالوقود النووي، ليسهل عليها تركيز مواردها على البرنامج العسكري". وبتقويض بوش للمعاهدة يخشى المنتقدون من أنها أصبحت مسألة وقت لا غير قبل أن تقدم دول أخرى مثل الصين وباكستان على عقد اتفاقات ثنائية في مجال التعاون النووي، علما أن باكستان طلبت من الولايات المتحدة إبرام اتفاق مماثل لكن واشنطن رفضت.
السيناتور الجمهوري "إدوارد ماركي" الذي يعد أحد أشد معارضي الاتفاق أكد بهذا الخصوص أن أميركا "لا تستطيع خرق القواعد إزاء الهند، بينما تتوقع من الآخرين الالتزام بها". ويذكرنا "ماركي" أن إبرام الاتفاق مع الهند سيفتح المجال واسعاً أمام التنظيمات الإرهابية والدول "المارقة" للسعي إلى امتلاك الأسلحة النووية، ضاربة بعرض الحائط الإجماع الدولي الذي ساد لعقود من الزمن حول ضرورة التعاون المشترك لمنع انتشار المواد النووية وتجنيب العالم الدخول في سباق محموم نحو التسلح النووي.
ــــــــــــــ
بوب هيربرت
ــــــــــــــ
كاتب ومحلل سياسي أميركي
ـــــــــــــ
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"