"إنهم يسقطون كالفئران المذعورة في أيدي العدالة"، هكذا وصفت إحدى صحف بنغلاديش في مانشيتاتها خبر نجاح السلطات المحلية مؤخرا في محاصرة اثنين من أخطر المتشددين الإسلاميين في البلاد والقبض عليهما في مخبئهما السري في شمال بنغلاديش. والإشارة هنا هي للمدعو عبدالرحمن الزعيم الروحي لتنظيم "جماعت مجاهدين بنغلاديش" الذي كان قد أعلن مسؤوليته عن سلسلة التفجيرات الستمائة المتزامنة التي وقعت في 17 أغسطس الماضي، وقائد العمليات العسكرية في التنظيم نفسه "صديق الإسلام" المعروف باسم "بنغلا بهاي" أو أخ البنغاليين.
والرجلان لا يختلفان، سواء في مظهرهما الخارجي وسيرتهما الذاتية أو في أفكارهما الدينية المتطرفة وأهدافهما النهائية، عن بقية الإرهابيين ممن تلقوا علومهم الدينية النظرية في معاهد إسلامية معينة ثم اتبعوها بتعلم فنون القتل والتفجير في معسكرات الجهاد في أفغانستان، قبل أن يعودوا إلى بلدانهم لزرع الفتنة واستهداف الأبرياء. وربما الفارق الوحيد هو أن عبدالرحمن، على خلاف أقرانه الإرهابيين في جنوب آسيا، يرتدي الكوفية الحمراء و الثوب العربي بدلا من السروال والقميص والعمامة.
وعبدالرحمن المولود في جمالبور (على بعد مائتي كيلومتر من دكا) في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي هو الشقيق الأكبر لأربعة رجال وخمس نسوة هم كل ذرية عبدالله بن فضل المعروف باسم "فضل مونشي" الذي عوقب بالسجن بعد قيام بنغلاديش بسبب تعاونه مع السلطات الباكستانية ضد مواطنيه أثناء حرب تحرير ما كان يعرف بباكستان الشرقية.
في صباه درس عبدالرحمن في مدرستي "تشاترا شانغا الإسلامية" و"أهل الحديث" اللتين كانتا بمثابة الذراع التعليمي لحزب "جماعات إسلامي" المرتبط أيديولوجيا بجماعة الإخوان المسلمين. بعد ذلك استفاد من نفوذ ومكانة والده الدينية والأدبية ضمن الحزب المذكور في الحصول على بعثة دراسية إلى الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة التي اشتهرت بهيمنة كوادر جماعة الإخوان المسلمين الهاربين أو المطرودين من سوريا ومصر على مناهجها ووظائفها الأكاديمية.
وفي أعقاب تخرجه عاد عبدالرحمن إلى وطنه ليزاول أعمالا مختلفة، لعل أهمها عمله كمترجم، أولا في السفارة السعودية في دكا بين عامي 1985 و1990 ثم في السفارة الكويتية. هذه الوظيفة تحديدا أتاحت له التعرف على ممثلين دبلوماسيين لأقطار شرق أوسطية وبناء علاقات معهم سهلت له لاحقا الحصول على تأشيرات للسفر إلى البلاد العربية وباكستان وأفغانستان. ولئن أفاده تردده على الدول العربية في الاتصال بالجماعات الإسلامية الدعوية والخيرية هناك وجمع الأموال والتبرعات منها بغرض بناء المساجد والمدارس الدينية في بنغلاديش، فإن ذهابه إلى باكستان وأفغانستان كان بهدف المشاركة في الجهاد والتدرب على القتال في معسكرات نظام "طالبان" وتنظيم "القاعدة". وفيهما تعرف الرجل على أسامة بن لادن وتشرب من أفكاره، ليعود لاحقا إلى وطنه مبشرا بها عبر جماعة "أهل الحديث" التي كان قد أسسها والده.
غير أنه سرعان ما اكتشف صعوبة السيطرة على هذه الجماعة في ظل وجود قيادتها في يد الدكتور غالب الذي كان يفضل تركيز الجهود أولا على خلق جيوش من المتشددين عن طريق إعادة تثقيفهم دينيا، بدلا من اللجوء الفوري إلى العنف المسلح كوسيلة لتغيير النظام وإقامة الدولة الإسلامية المطبقة للشريعة في بنغلاديش مثلما طالب عبدالرحمن. هذا التباين، معطوفا على خلافاتهما حول الشؤون المالية وطرق التصرف في التبرعات القادمة من الخارج، أفضى إلى ترك عبدالرحمن لجماعة "أهل الحديث"، ليؤسس في عام 2002 تنظيمه الخاص المعروف باسم "جماعت مجاهدين بنغلاديش"، وليتحالف سريعا مع تنظيم آخر مشابه له في الأفكار والتوجهات والأهداف المتطرفة هو "جاغراتا مسلم جاناتا" بقيادة بنغلا بهاي.
والأخير كان تلميذا عند عبدالرحمن ثم اشتغل بالتدريس في المدارس الإسلامية في الثمانينيات وسافر للجهاد في أفغانستان، قبل أن يعود ويصبح زعيما ميليشاويا يخضع له نحو 20 ألف شخص من المسلحين بالسيوف والسكاكين. ومن أجل التمويه، تسمى بأسماء مختلفة مثل عزيز الرحمن وعمر علي ليتو وغيرهما. كما أدعى بأنه حاصل على ماجستير في الأدب البنغالي من جامعة راجشاهي عام 1995 ، ليتبين من مراجعة سجلات الجامعة المذكورة أنه كاذب. وحينما جابهته الصحافة بذلك ادعى أنه كان مسجلا في "كلية عزيز الحق الجامعية" ذات الارتباط الأكاديمي بجامعة راجشاهي. وهذا أيضا ثبت بطلانه.
نشط التحالف المذكور في الأقاليم الشمالية محاولا، عن طريق العنف والتهديد والعقاب الجسدي وإقامة المحاكم الميدانية العلنية لليساريين والعلمانيين والفنانين والنساء غير المنقبات، إقامة نظام مشابه لنظام "طالبان" الأفغاني في تلك المناطق كمقدمة لمده إلى بقية أنحاء البلاد. وحقق في ذلك بعض النجاح بفضل تردد السلطات في مطاردة رموزه وقادته وغض الطرف عن انتهاكاته من أجل مكاسب سياسية ضيقة. لكن مع تصاعد الشكاوى من تلك الأنشطة، قامت الحكومة في عام 2003 بحملة اعتقال