الإدارة الأميركية أمرها عجيب وفكرها غريب، فبين ليلة وضحاها انقلب حال بعض الدول العربية من وجهة نظر واشنطن، وانقلبت تهم الديكتاتورية ومصادرة حقوق الإنسان في إحدى الدول العربية، إلى منارة للديمقراطية في الوطن العربي بأكمله، وأصبح اختيار الشعوب لمن يمثلها وفق إرادتها الحرة وعن طريق انتخابات نزيهة؛ جريمة تستحق قطع المساعدات الأميركية عنها واسترداد ما تم منحه لها، وبات مقياس أميركا للديمقراطية وحرية الانتخابات؛ هو وصول قيادات "متأمركة" للحكم.
ثم كيف قامت إدارة بوش الصغير ولم تقعد حتى الآن في عملية اغتيال الحريري رئيس وزراء لبنان الأسبق، وكيف تصر على القصاص من الجناة، ووجهت اتهاماتها الفورية إلى النظام الحاكم في سوريا، في حين أنها لم تحرك ساكناً أو حتى تعبر عن استيائها عندما أعلنت إسرائيل صراحة بأنها ستغتال رئيس الوزراء الفلسطيني... إنها ألغاز أميركية ربما يعتقد بعضهم أنها تستعصي على الفهم.
فقبل أن تقوم السيدة كوندوليزا رايس بزيارتها إلى دول منطقة الشرق الأوسط بليلة واحدة، اتهمت بصراحة كاملة وبكلمات واضحة إحدى الدول العربية وحددتها بالاسم بأنها تصادر حقوق الإنسان ولم تقم بخطوات جدية وحقيقية تجاه الإصلاح السياسي، الأمر الذي دفع إدارة بوش الصغير إلى إعادة النظر في المساعدات التي تقدمها لها، وإلى هنا نجد أن الجريمة التي أعلنتها "كوندي" وارتكبها نظام هذه الدولة واضحة ومحددة ولا لبس فيها والعقوبة وُقعت على هذه الجريمة.
ولكن فور وصولها إلى هذه الدولة، وقبل أن تلتقي بزعيمها تغير الأمر برمته! وأصبحت هذه الدولة رائدة للديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط، وقاطرة عجلة الإصلاح السياسي في الدول العربية. هنا يكون السؤال الذي يفرض نفسه: ماذا حدث بين ليلة وضحاها؟ هل اكتشفت السيدة "كوندي" فجأة أن ما قالته ليس صحيحا؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لم تتراجع واشنطن عن موقفها من المساعدات لهذه الدولة؟ أم إنه قد جرى تأويل لحديثها وأخطأت وسائل الإعلام العالمية في نقله؟ العيب إذاً في المستمعين والمشاهدين الذين صدقوا هذه الوسائل! أم إن الدبلوماسية الأميركية وجدت من عدم اللياقة والكياسة اتهام نظام دولة تقوم بزيارتها لحثها على دعم المصالح الأميركية وتنفيذ خطط واشنطن في الوقت الذي تتهمها بأن نظامها عاق ومتمرد على الدعوة الأميركية للديمقراطية؟ أم أن الاتهامات عبارة عن تذكير لهذه الدولة وأمثالها بأن واشنطن لن تتنازل قيد أنملة عما يؤثر على مصالحها؟ ولذلك غير مسموح بهامش للمناورة السياسية لأي نظام يتعاون مع الإمبراطورية العظمى؟
ثم كيف تطالب إدارة بوش الصغير دول الشرق الأوسط بالتحول الديمقراطي في الوقت الذي ترفض فيه احترام إرادة الشعوب بل وتعاقبها على اختيارها؟ فهل فهمت هذه الشعوب الدعوة الأميركية للديمقراطية خطأ؟ أم أن واشنطن لم تكن واضحة بما فيه الكفاية نحو تحديد الديمقراطية التي تريدها؟
من المؤكد أن لهذه الألغاز وجهاً آخر لا يخفى على أحد هو أن بوش الصغير وزمرته لا يهمهم وجود نظم ديمقراطية أو ديكتاتورية أو مستبدة وتعتنق أية ديانة في العالم، لأن المهم هو مصالح واشنطن، فالمصالح هي المحرك الرئيسي للإمبراطورية الأميركية العظمى، ومقولة زمان التي قالها رئيس وزراء بريطانيا العظمى الشهير ونستون تشرشل: "سأتحالف مع الشيطان من أجل مصالح بلدي"، ومكيافيللي الذي قال "الغاية تبرر الوسيلة"، أما بوش الصغير فيقول في نفسه "أنا ومن بعدي الطوفان"، فمصالحه أهم من العرب والمسلمين كلهم.
لقد أخطأ بعضهم في فهم حقيقة دعوة بوش الصغير وزمرته إلى الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي في منطقة الشرق الأوسط، لأن الذي كان يقصده هو إصلاح سياسات الدول لتتوافق مع سياسات أميركا ومصالحها، وأن تكون الديمقراطية هي الطريق لوصول الموالين لها إلى السلطة، لذلك كان من واجب واشنطن تصحيح الفهم من خلال معاقبة من خالفوها وإرشادهم إلى إصلاح الخطأ قبل فوات الأوان، لضمان عدم تكراره مرة أخرى.
لقد نجحت السياسة الأميركية على مدى عقود من الزمن في أن تقسم المنطقة إلى قسمين لا ثالث لهما؟ قسم مع إسرائيل وهؤلاء هم الحلفاء والأصدقاء المرضي عنهم من الإمبراطورية العظمى، وقسم آخر هم الذين ضد إسرائيل وهم أعداء الإمبراطورية، أي أن المصلحة الاستراتيجية الحيوية الأميركية في المنطقة هي "إسرائيل" فقط، أما مسألة النفط وإمداداته فمرتبطة بتكريس هيمنة الإمبراطورية العظمى على مصادر إمداد أوروبا ودول آسيا الكبرى بالطاقة اللازمة، لأنه يسمح لها بابتزاز أوروبا والصين والهند من جانب، ويجعلها مسيطرة على معدلات نموهم الاقتصادي من جانب آخر، وعندما نجد بوش الصغير وأعضاء إدارته يحلفون بالأديان كلها والآلهة والأنبياء أنهم ما جاؤوا إلى المنطقة طمعاً في ثروتها النفطية فهم صادقون تماماً.
لذلك فإن الطريق إلى قلب "ماما أميركا" يمر عبر رضا وليدها إسرائيل، ومن المؤكد أن الامبراطورية العظمى لم ولن تتوقف يوماً لتسأل نفسها: لماذا تكره الشعوب العربية و