كانت شهورٌ قد مضت على دعوة نبيه بري رئيس مجلس النواب اللبناني، الأطراف السياسية المختلفة الممثَّلة بالمجلس للحوار حول القضايا اللبنانية العالقة بعد مقتل الرئيس رفيق الحريري، وخروج الجيش السوري من لبنان. وقد توصّل الرئيس بري بعد مشاوراتٍ كثيرةٍ إلى أنّ هناك مشكلاتٍ ثلاثاً لن يستطيع اللبنانيون لها حلاً إلاّ بالحوار:المحاكمة الدولية لقَتَلة الرئيس رفيق الحريري، والقرار الدولي رقم 1559 بشأن لبنان، والعلاقات اللبنانية- السورية. لقد بدا لوهلةٍ أنّ الاتهام بقتل الرئيس الحريري يتوجَّهُ نحو سوريا أو على الأقلّ نحو الأجهزة الأمنية فيها، والأجهزة الأمنية التي كانت صنيعتَها في لبنان. ولذلك فعندما طُرح موضوع المحكمة الدولية لقَتَلة الحريري المحتَمَلين أمام مجلس الوزراء، خرج وزراءُ "حزب الله" وحركة "أمل" من اجتماع المجلس، وظلوا غائبين دون أن يستقيلوا لسبعة أسابيع! وقد قالوا وقتها إنهم لم يُشاوَروا، أو أنهم لم يُعطَوا وقتاً كافياً للتفكير في المسألة. وزاد الطين بلّة أنّ رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة طالبهم بالموافقة على التوسُّع في التحقيق ليطالَ الاغتيالات الأخرى التي حدثت بعد استشهاد الحريري. ووزراء ونواب "حزب الله" وحركة "أمل" يقولون الآن إنهم موافقون على المحكمة ذات الطابع الدولي، وعلى التوسُّع في التحقيق على حدٍ سواء. وهذا موقفٌ خَدَم البدءَ في عملية الحوار بمجلس النواب، لأنه يُنَحّي المشكلةَ التي يمكن أن تحدُثَ مع سعد الحريري وتيار "المستقبل"، ويُبْعِدُ المسائل الشخصية.
أمّا الموضوعُ الثاني: موضوع القرار 1559 فيبقى عليه خلافٌ شديدٌ فعلاً؛ إذ هو يتناولُ أربعة أمور: انتخابات رئاسة الجمهورية اللبنانية، ونزع السلاح الفلسطيني، ونزع سلاح "حزب الله"، والحدود الدولية مع سوريا وإسرائيل. صدر القرار كما هو معروف عشية التمديد للرئيس لحود، وهو يدعو لانتخاباتٍ حرة دون تدخُّلٍ خارجي، وبدون انتهاكٍ للدستور والقوانين. وقد أصـرَّ أطراف 14 آذار دائماً- ومنذ ما قبل الانتخابات النيابية الأخيرة- على عدم شرعية لحود، وضرورة استقالته أو إقالته. وأصرَّ "حزب الله" وحركة "أمل" دائماً أيضاً على شرعية الرئيس لحود، وانضمَّ إليهما بعد الانتخابات في هذا الرأي الجنرال عون. وما يزال هذا الموضوع إشكالياً حتى اليوم، ليس بسبب تشبُّث تلك الأطراف بلحود؛ بل لتعذُّر الاتفاق على بديل، ولأنّ سوريا متمسكةٌ به باعتباره أحد مظاهر بقاء نفوذها، ولأنها تريد شيئاً في المقابل إن اضطُرّت للموافقة على خلعه واستبداله. وهكذا فـ"أمل" و"حزب الله" وعون، والفريقان الأولان بالذات، وكيلا سوريا في هذا الشأن، إضافةً إلى مصلحتهم في مجيء بديلٍ ليس من حركة 14 آذار الشديدة الخصومة مع سوريا وإلى حدٍ ما معهم. وقد تطرق الحوارُ في مجلس النواب فيما يبدو إلى هذا الموضوع، لكنّ الأمر تأجَّل، لتعذر الاتفاق، ولأن بعض الأطراف ما كان حاضراً حضوراً كافياً (سوريا ولحود والمرشحون البديلون).
وتبقى الموضوعات الثلاثة الأخرى، وكلُّها مسائلُ متفجّرة. فالسلاحُ الفلسطيني الذي قيل إنه جرى الاتفاق على ما هو خارج المخيمات، وشبه الاتفاق على ما هو في داخل المخيمات؛ ليس ذا جدوى كبيرة؛ لأنّ سوريا لها علاقةٌ بالفصائل العشرة، وهي التي تُسرِّب السلاحَ والمسلَّحين بزعامة أحمد جبريل إلى لبنان. ومما يُصدِّقُ ذلك أنَّ أحد أعضاء الجبهة الشعبية- القيادة العامة، خَرج على التلفزيون، أثناء بحث مؤتمر الحوار في الموضوع الفلسطيني وهدَّد وتوعَّد، وربط موضوع السلاح بالمقاومة. أما الموضوع الآخر وهو موضوع رئيس الجمهورية، فيتعلق أيضاً بسوريا من جديد، مثل الملف الفلسطيني. ويبقى الموضوعان الأخيران اللذان توقّف الحوارُ أمامهما على أن يعودَ يومَ غدٍ الإثنين: موضوع سلاح المقاومة، وموضوع العلاقات اللبنانية/ السورية. سلاحُ المقاومة يبدو حتى الآن مشكلةً لا حلَّ لها. فهو تارة لتحرير مزارع شبعا، وطوراً لحماية لبنان من الاعتداءات، أو الأمرين معاً. ولا يريد بعضُ أطراف 14 آذار أن يقبلوا شيئاً من هذا الكلام (وليد جنبلاط)، بينما لا يعترفُ الآخرون إلاّ بقضية مزارع شبعا، ويريدون أن تساعدهم سوريا في إثبات لبنانيتها أمام المجتمع الدولي، لكي يمكن مطالبة الأمم المتحدة بإرغام إسرائيل على الانسحاب من المزارع، بمقتضى القرارات الدولية ذات الصِلَة! وبذلك نعودُ هنا أيضاً إلى الرهن السوري والرهان على فشل اللبنانيين في إقامة نظامٍ توافقيٍ متقدم من دون الوصاية السورية.
اجتمع الفرقاء السياسيون اللبنانيون لمناقشة هذه القضايا بمجلس النواب أياماً بلياليها. وقد حدث اتفاقٌ على المحكمة الدولية، وتقارُب في الموضوع الفلسطيني. ثم كثرت الاختلافات، لاختلاف الأولويات، والمصالح، والافتقار إلى الوسيط بين هؤلاء القادة و"الجنرالات". ولا تحْسنُ المبالغةُ في التأثير السوري الباقي، رغم فداحة ذلك التأثير بالفعل. فهناك اختلافاتٌ لبنانيةٌ حقيقيةٌ بغضّ النظر عن سوريا ومصالحها. هناك استماتة ا