رغم كل ما كُتب وسرّب عن مؤتمر الحوار اللبناني، باستطاعتي التأكيد على أن التجربة كانت ناجحة، وأن لا خيار لدى اللبنانيين سوى الحوار. لقد كانت المرة الأولى التي يجتمع فيها اللبنانيون حول طاولة واحدة دون راع أو وسيط. قالوا كل شيء بصراحة ووضوح. كل طرف عبـّر عن هواجسه ومخاوفه وطالب بضمانات. هذه هي الحقيقة التي لا تسقطها تسريبات من هنا ومواقف من هناك لأن ثمة من كان يريد استهداف الحوار وإسقاطه. لقد كان النقاش هادئاً راقياً عميقاً موضوعياً حول كل الملفات والقضايا التي طرحت. وهذه مسألة لم يتعوّد عليها اللبنانيون. ما كان يجري في السابق، في اللقاءات الثنائية أو الثلاثية أو الرباعية، أو التحالفات والجبهات، كان فيه مزيج من الوضوح والغموض والصدق والمناورة، إنْ لم يكن بين المتحالفين أو المتحاورين على طاولة واحدة فعلى الأقل تجاه الآخرين. اللبنانيون يؤمنون دائماً أن ثمة شيئاً تحت الطاولة. أن ثمة صفقات واتفاقات جانبية تُعقد. أن ثمة كواليس. وأن القرارات لا تكون عادة على طاولة مجلس الوزراء مركز القرار السياسي في البلاد، بل تأتي اليه معلـّبة، ومجهّزة سلفاً إما من صنع الأجهزة الأمنية اللبنانية أو مواقع القرار الخارجية، أو الاتفاقات الثنائية بين "ترويكا" أو "دويكا".
كان من الصعوبة بمكان إقناعهم بأن تجربة الحوار الأخيرة كانت مختلفة، وأن صراحة سادت المناقشات، وأن اتفاقات توصل اليها المتحاورون، واتفاقات كانت في طريقها الى التوقيع أيضاً. وليس في الأمر غرابة. لكن التجربة الأخيرة ورغم كل ما رافقها من نقاشات وتكهنات ومحاولات تدخل لإفشالها من هنا ومن هناك، ومن تعليق لأيام المرحلة الأولى من الحوار، فإنني أعتقد أنها كانت تجربة ناجحة. وعلى هذا الأساس كنت رافضاً اقتراح تعليق جلسات الحوار تحت أي ذريعة من الذرائع ومهما كان السبب وجيهاً. دعوت الأخوة المشاركين الى استكمال الحوار حتى النهاية. وإذا كان ثمة ملف لم نتفق عليه، كان بالامكان تأجيله والانتقال إلى بند آخر لمناقشته والانتهاء منه لنعود الى مناقشة ما لم نتفق عليه. ونكون بذلك قد استفدنا من الوقت لمزيد من التعمق بدراسة الأمور ومن مناخ الثقة الذي تأسس من خلال التفاهم على قضايا معينة.
علـّق الحوار لأيام. لكن لم يسقط. ولا يجوز أن يسقط . هذه مسألة مهمة. قد يقول البعض: المواقف متباعدة حول مسائل جوهرية. فأقول: هذا أمر طبيعي. ولو لم يكن الأمر كذلك لما جئنا الى طاولة الحوار. جئنا إلى الحوار لأننا مختلفون. جئنا إلى الحوار لأن ثمة خلافات كبيرة في العمق وانقسامات حول قضايا رئيسة في البلاد يعرفها كل العالم. وجئنا إلى الحوار في ظل خلاف عميق مع سوريا وتدهور في العلاقات اللبنانية- السورية منذ أن فرضت القيادة السورية قرار التمديد لرئيس الجمهورية إميل لحود في سبتمبر 2004 ، وتلا ذلك مسلسل الاغتيالات ومحاولات الاغتيال، وكانت قمته في الجريمة الارهابية التي أودت بحياة الرئيس الشهيد رفيق الحريري. جئنا إلى الحوار، وسوريا سحبت قواتها من لبنان بعد هذه الجريمة وبشكل لم نكن نريده أبداً، ولكنها لا تزال تلعب دوراً من خلال بعض القوى اللبنانية والسورية. وجئنا بعد سلسلة من القرارات الدولية بشأن لبنان، ومعظمها يتهم سوريا أو يطلب إليها خطوات معينة وهذا الأمر بحد ذاته، أي العلاقات اللبنانية– السورية، الموقف السوري، وأزمة الثقة، وتداعيات وتشابكات هذه المسألة مع تعقيدات في العلاقات العربية– العربية مهم جداً، وجئنا إلى الحوار في ظل تطورات إقليمية لها امتدادات في لبنان من فلسطين الى العراق الى ايران وملفها النووي وتحالفاتها مع سوريا وقوى في العراق وفلسطين ولبنان.
ووضع غير مستقر في الخليج واستهدافات لبعض دول الخليج، ودور أميركي دائم في كل ذلك خصوصاً في العراق إثر الغزو وانعكاساته على كل الوضع في المنطقة.
نحن دولة صغيرة. موقعها مهم. ودورها مهم. والاهتمام بها مهم. لكن قدراتها ليست مهمة. هذه هي أوضاعها، وهي خرجت من حرب الحروب الداخلية. ومن الحرب مع اسرائيل التي لا تزال تستهدف أمننا في الجنوب. ومن تحكـّم بقرارها من قبل سوريا منذ ثلاثين عاماً. ومن زلزال بعد اغتيال الرئيس الحريري. وثمة الكثير من المحطات والأسباب الأخرى التي يمكن التوقف عندها. لذلك أقول: إن تجربة الحوار في ظل هذه الظروف ناجحة ومهمة وضرورية ولا بد منها. وحتى لو توقفت الجلسات مرة ثانية، فلا بد من العودة إليها. ولا بد من النقاش حول كل المسائل وبنفس الروحية. قد نختلف، قد تعلو الأصوات، قد تظهر هواجس مرعبة، وقد تظهر طروحات مخيفة، لكن يجب أن نتصارح، يجب أن نقول رأينا كما هو ليس بخلفية الاتهام أو التحدي بل بخلفية الرغبة في الوصول الى اتفاق لانقاذ البلد وإخراجه من أزماته وفتح أبواب الآمال أمام اللبنانيين.
البديل عن الحوار المستمر والمفتوح هو المأزق. والانفجار بأي شكل من الأشكال ولا يمكن للبنان أن يتحمل تجربة عراقية، بمعنى الصراع المذهبي، والتفجيرات المذهبية، أو صراعات من نوع آخر. لم يعد