إن لي مهمة لديك تشيني نائب الرئيس, وإياكم أن تحسبوا هذه مجرد مزحة من مزح الصيد. فأنا جاد جداً فيما أقول: انظروا إلى العراق, فهو ينحدر إلى اللاهدف الآن, إن لم يكن إلى حرب أهلية طاحنة لا تبقي ولا تذر, فإلى مأزق من العنف السياسي الدامي لاشك. وفيما لو لم ينجح العراقيون في التوصل إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية في حدها الأدنى على الأقل وعلى جناح السرعة, فإن على أميركا أن تستعد لرعاية هذا المأزق الذي سيطول أمده. لكن وإذا ما سعينا لتفادي هذه الكارثة, فإن الوقت الراهن هو اللحظة المناسبة فعلاً لاجتراح فكر سياسي جديد إزاء العراق. ولكي أوجز القول وأدلف إلى لب الموضوع مباشرة, أقول إن هذا ليس الوقت المناسب لانسحاب الولايات المتحدة الأميركية من العراق, بيد أنه الوقت المناسب كي تبدأ تهديدها بالانسحاب منه. ففي اللحظة التي كان فيها العنف مستمراً في العراق, في حين يحرز الوضع السياسي تقدماً متعثراً على رغم ذلك, لحظتها كان ممكناً الاعتقاد بإمكانية التوصل إلى نتيجة مرضية في نهاية المطاف.
أما وقد تصاعدت دوامة العنف هذه, لتصل إلى حد يتبادل فيه العراقيون مع بعضهم بعضاً القتل وسفك الدماء على أسس طائفية وعرقية, وتشتد فيه الخصومة وحمى التنافس السياسي إلى هذا الحد, فلا سبيل مطلقاً للتفاؤل بما يجري في ظل هذه الأوضاع والحقائق. كما أنه ليس منطقياً ولا مقنعاً القول بضرورة استمرار وجود القوات الأميركية رهينة الخوف من اندلاع حرب أهلية بين العراقيين. وفيما لو عقد العراقيون العزم على خوض حرب أهلية واسعة النطاق فيما بينهم, فإن من الأفضل أن تندلع هذه الحرب دون أن نكون نحن طرفاً فيها. على أننا وبرغم ذلك, لابد لنا من القيام بمحاولة واحدة أخيرة, بهدف نزع فتيل هذه الحرب والحيلولة دون اندلاعها.
والخطوة الأولى في هذا الاتجاه أن يكف فريق بوش عن خداع نفسه بأن الصحافة لا تنقل الأخبار السارة والإيجابية عن العراق. فما ذلك الاعتقاد سوى محض هراء. وعلى الإدارة أن تكف أيضاً عن لعب دور المتفرج على الأحداث, بينما هي تدور وتتشكل مباشرة أمام عينيه, دون أن يفعل فيها شيئاً. كما أن عليها أن تغير نهج الزيارات الخاطفة العابرة التي يقوم بها إلى هناك وزير الدفاع ووزيرة الخارجية كوندوليزا رايس, مع العلم بأنها زيارات لا تقدم ولا تؤخر شيئاً. وها هي اللحظة التي يتعين فيها على الإدارة البدء بتحمل مسؤوليتها كاملة عن الحرب التي شنتها على العراق, وألا ترمي عبء المسؤولية برمتها على عاتق العمل العسكري وحده. بل صحيح القول أيضاً إنه ليس ثمة حل عسكري لهذه الأزمة, طالما أنها أزمة سياسية في الأساس. ومن هنا فقد حان موعد شن أكبر حملة دبلوماسية أميركية منذ لحظة الغزو. وفي هذا فإن علينا أن نجمع رؤوس كافة القادة العراقيين المنتخبين مؤخراً, في مؤتمر للصلح الوطني, يعقد خارج عاصمة بلادهم بغداد. وعلينا أن نغلق عليهم أبواب القاعة التي يدخلونها ولا ندعهم يخرجون منها إلا في حالتين اثنتين لا ثالثة لهما: التوصل إلى حكومة وحدة وطنية, وعندها سيبدي الأميركيون استعداداً لمواصلة البقاء في العراق, أو في حالة فشلهم في تشكيل تلك الحكومة, فما على أميركا إلا أن تحزم حقائبها استعداداً للرحيل.
وعلى الإدارة أن تختار من هو أقدر على وضع هذين الخيارين أمام العراقيين, بكل الوضوح والحزم والإرادة اللازمة. ومن هو أنسب لمهمة كهذه من ديك تشيني نائب الرئيس؟ فهو الأشد لؤماً والأكثر بجاحة بينهم بلا منازع. وبما أن رتشارد هولبروك كان قد نجح خير نجاح في القيام بمهمة كهذه, في مؤتمر "دايتون" للسلام, الذي وضع حداً للحرب الأهلية البوسنية, فليس مستبعداً أن يكرر ديك تشيني النجاح ذاته في العراق, على أن يساعده هذه المرة, سفيرنا الأميركي ذو الكفاءة المهنية الرفيعة, زلماي خليل زاد. بمعنى آخر فإننا بحاجة ماسة الآن إلى "مؤتمر دايتون عراقي", كما نحتاج كذلك إلى شخص "غشيم" بمعني الكلمة, كي يحقق المؤتمر النتائج المرجوة منه.
وفي وسع تشيني أن يبدأ حديثه في المؤتمر مخاطباً السُّنة العراقيين كما يلي: "إنكم لا تريدون صلحاً يا معشر القوم. حسناً لكم ما أردتم, ولكنا سنغادر بلادكم ونترككم تحت رحمة إخوانكم الشيعة الذين يفوقونكم عدداً بكثير كما تعلمون". ثم يتجه بعدهم إلى الشيعة رامقاً إياهم بعينه الحمراء: "أما أنتم فتريدون أن تحكموا العراق وتبسطوا نفوذكم وسيطرتكم على موارد النفط, دونما اعتبار يذكر لإخوتكم السُّنة. حسناً لكم ما تشاءون, ولكن عليكم أن تعلموا أنكم لن تحكمون إلا مرجلاً متأججاً من اللهيب والغضب, ما لم تتواضعوا وتحققوا صلحاً مع إخوتكم السُّنة". وحين يأتي الدور على الأكراد ففي وسع تشيني أن يشيد بحس المسؤولية العالية الذي تعاملوا به مع المتغيرات السياسية الجديدة, مصحوباً بمطالبتهم بالاستمرار والمثابرة على هذا النهج, مع طمأنتهم بأنهم سيحظون بالرعاية والاهتمام, فيما لو نشبت الحرب الأهلية وتمزقت وحدة العراق.
وبعدها يتعين على تشيني الطرق على القضايا الأساسية مت