هل يعود غياب الديمقراطية في إفريقيا إلى افتقادها لشخصيات تقود التحول الديمقراطي، أم إلى أسباب مرتبطة بالبنى الاجتماعية والثقافية للقارة؟ وهل تدفع إفريقيا، من تطورها السياسي، ثمنا للتنافس عليها بين فرنسا والولايات المتحدة؟ وما السبب وراء الأزمات التي تعانيها القارة؛ هل هو التدخلات الأجنبية أم انحرافات النخب الإفريقية ومشاريعها المفلسة؟
تلك أهم التساؤلات التي يتصدى لها عبد القادر رزيق المخادمي في كتابه "التحول الديمقراطي في القارة الإفريقية"، وذلك من خلال فصوله الـ12 والتي تناولت، في 350 صفحة، مواضيع تتعلق بالنظم السياسية الإفريقية خلال مرحلة ما قبل الاستعمار، والمظاهر السياسية والدستورية في العهد الاستعماري، وخصائص الوجود الأوروبي في إفريقيا، والحركات السياسية الإفريقية، والنظرة الأميركية للإصلاحات السياسية في إفريقيا، والاستراتيجية الأوروبية في القارة السمراء...
حتى حقبة قريبة نسبيا في التاريخ، كانت إفريقيا قارة مجهولة، وحين غزتها الإمبراطوريات الأوروبية من كل جانب، لم تجد إلا قبائل وإثنيات عرقية ولغوية، فكان أن قام المستعمرون بتقسيم القارة الإفريقية على الورق. وعندما نالت كيانات القارة استقلالها عن الاستعمار الأوروبي (الفرنسي والبريطاني والإيطالي والبلجيكي والبرتغالي)، وجد زعماء الاستقلال أنفسهم أمام حقيقتين: أولاهما أنه لا وجود لشعب إفريقي واحد في حدود سياسية تجمعه، وثانيهما أنه ما من دولة بين الدول الإفريقية الناشئة حديثا، إلا وتجمع في حدودها أجزاء من شعوب وقبائل وأديان مختلفة!
وقد انبثقت المظاهر السياسية في المستعمرات البريطانية من نظامي "مستعمرات التاج"، و"الحكم غير المباشر". أما سياسة فرنسا فقامت على اعتبارها "المتروبول" والممثل السياسي لشعوب مجموعة غرب إفريقيا. ورغم ذلك فقد شكل الأفارقة أحزابهم السياسية، التي أظهرت تشابها كبيرا في خصائصها وأهدافها ومراميها البعيدة؛ خاصة لجهة الخلاص من المستعمر وإقامة حكم وطني مستقل.
وساهم زعماء وقادة أفارقة عظام في إنجاز الاستقلال السياسي لبلدان القارة، واكتسبوا من ذلك العمل شرعية حقيقية لم تتعارض في المراحل الأولى مع الهياكل الدستورية والمؤسسات البرلمانية التي أورثها المستعمرون للدول الإفريقية، لكن أخطاء كثيرة أظهرت التعددية الحزبية بوصفها الوجه الآخر للتعددية القبلية والعرقية (الحرب الأهلية في الكونغو كينشاسا عام 1963). من هنا جاءت مبررات نظام الحزب الواحد الذي أصبح، في الفترة بين عامي 1965 و1990، موضة سياسية رائجة على امتداد القارة، فاستمد حزب السلطة شرعيته من كونه إطارا فعالا لتحقيق الاندماج السياسي وتعبئة القوى الوطنية! وصاحب ذلك تحول نحو الماركسية (اللينينية والماوية) في دول إفريقية عديدة مثل غينيا وموزمبيق وبنين.
إلا أن رياح التحول الديمقراطي هبت قوية في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، فيما تجارب الحزب الواحد قد بدأت تعاني من أعراض الشيخوخة والعجز، إضافة إلى تحول النظام الدولي من الثنائية القطبية إلى نظام القطب الواحد (والذي يشجع في المجال الاقتصادي على نظام السوق وفي المجال السياسي على التعددية الحزبية والتمثيل البرلماني).
وهنا يلاحظ المؤلف أن تطبيق المسارات الديمقراطية في إفريقيا بدأ بطريقة ارتجالية ودون تخطيط مسبق يراعي الفواصل الزمنية بين حقبتين، بل جاء تحت تأثير التغيرات الخارجية (أحداث أوروبا الشرقية والضغوط الغربية)، مما أدى إلى تفجر الصراعات والحروب الأهلية في 21 بلدا إفريقيا. وهكذا، فكما نجد اليوم بلدانا إفريقية تتمتع بحياة ديمقراطية مستقرة، مثل جنوب إفريقيا والموزمبيق وتنزانيا، فهناك دول أخرى كثيرة تعيش أزمات وحالات حروب؛ كأنغولا وسيراليون وليبيريا والكونغو...
وإذا كان الانتقال نحو التعددية الحزبية حقق جوانب مهمة من الحياة الديمقراطية في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، فإن الأخطاء والممارسات السلطوية التي حفلت بها مسارات التحول السياسي، شكلت حدودا لتجربة الإصلاحي السياسي في القارة. وهذا ما وعاه قادة أفارقة، فبادروا إلى مشروع "الشراكة الجديدة لتنمية إفريقيا" (نيباد)، وذلك بهدف التركيز على التنمية والحكم الرشيد وتحقيق الشفافية وتعميق الشراكة مع الدول المانحة.
ويجمل الكتاب السياسة الأميركية تجاه إفريقيا في توجهات رئيسية؛ أهمها التركيز على مناطق إقليمية معينة، واختيار دولة أو أكثر لرعاية مصالحها، والعمل على محاصرة النظم "غير الموالية"، وتعزيز فرص الاستثمار وشروطه وفق النمط الغربي للتنمية، إضافة إلى قضية الإرهاب التي فرضتها واشنطن على أجندة السياسة الإفريقية...
ولعل المفارقة هنا هي أن الأنظمة التي تبنت الإصلاح الديمقراطي والإقليمي في إفريقيا، بالتنسيق مع أميركا، هي أنظمة تتمتع اليوم بشرعية ديمقراطية وباستقلال كبير في قرارها، وإن التقت توجهاتها مرحليا مع الرؤية الأميركية!
أما أوروبا التي حافظت على علاقاتها مع الدول الإفريقية المستقلة، ف