بجانب السلبيات التي تحدثت عنها في مقالات سابقة حول المصاعب التي تواجهها سياسات الإصلاح التعليمي، هناك أيضاً موضوع في غاية الأهمية يجب أن ننتبه إليه ونحن نتحرك الآن نحو إصلاح التعليم. هذا الموضوع يتعلق بـ"الحلول المستوردة" التي أخذت بها تجارب الإصلاح السابقة في معالجة المشكلات التعليمية. وكان التفسير عند أصحاب نظرية الحلول الخارجية الذين استسهلوا الحلول الجاهزة، أنها سوف تختصر الزمن وتخلق لنا صورة جديدة في التعليم. لكن الذي حدث هو أن غالبية هذه الحلول كانت عبارة عن "حبوب مهدئة" تعمل على تسكين الألم التعليمي والتربوي دون أن تزيله. وواقع الحال التعليمي بعد ثلاثة عقود يثبت هذه الحقيقة، حيث إن غالبية الحلول فشلت في تحقيق معادلة الإصلاح المطلوبة، وفي إحداث تغيير حقيقي لواقع النظام التعليمي، وفي صناعة تعليم مميز يحقق مطالب التنمية والمنافسة العالمية، وفي إحداث ثورة صناعية مشابهة لما وصلت إليه الأمم القوية... ويرجع السبب إلى هذه الحلول وظروفها وطريقة تطبيقها.
لكن هناك مجموعة أسباب أخرى كان لها دور أساسي في ذلك الفشل وهي:
1- أن الحلول المذكورة نشأت في مجتمع غير مجتمعنا وتكونت على أرضيته لعلاج أوضاع تعليمية غير أوضاعنا، وللرد على مشكلات بعيدة عن بيئتنا الخاصة.
2- غالبية الحلول التعليمية التي استوردناها كانت مليئة بالثغرات ونقاط الضعف والقصور، خاصة فيما يتعلق بحاجاتنا المجتمعية.
3- إغفالها لجانب مهم في حياتنا، جانب الروح والفكر والأخلاق، وللنظرة المتوازنة، إلى الحياة والدين والعلم.
4- في أغلب حالاتها كان يتم الأخذ بها، من جانب مؤسسات لها مصلحة مباشرة في ذلك.
5- عندما أخذنا بتلك الحلول، لم يكن ذلك انطلاقا من رؤية علمية واضحة.
6- افتقارنا للقدرة على فهم تلك الحلول بمستوى عالٍ يناظر الغرب الذي بنى نهضته المتقدمة عليها.
7- الكثير من هذه الحلول التي أخذنا بها، ليست هي الحلول نفسها التي مكنت الدول المتقدمة من النمو والرقي.
ولعله مما زاد في تضخم الحالة أعلاه هو موضوع الاستعانة بـ"الخبراء الأجانب"، والذين أثبتت التجارب أن دورهم في منظومة الإصلاح التعليمي لم يتعدَّ مسألة ضبط وتسيير وحراسة هذه الحلول التي تميزت بتكريس حالة التعليم التقليدي، والذي يمنع ظهور المبدع والمبتكر والمخترع. هذه الحلول لم تضع لنا عقولاً تملك أدوات المنهج العلمي، عقولا لديها القدرة على استخدام التفكير العلمي الصحيح، قادرة على الحوار والمناقشة والمشاركة والتحليل والبحث والتفكير والإبداع والابتكار والاختراع، لديها كم مرتفع من المهارات العليا في مجال التفكير العلمي الذي يلعب دوراً مباشراً في ظهور الطالب المبدع والمخترع. لذلك لا يجب أن نستغرب تدني مخرجات التعليم والانخفاض المخيف في معدلات الإبداع والابتكار الوطني والارتفاع الشديد في معدلات التسرب والرسوب والعنف المدرسي وعدم ظهور المخترع المحلي الوطني.
نحن في الحقيقة نحتاج خلال المرحلة الحالية إلى تغيير العقول التي كان لها دور مؤثر في إفشال عملية الإصلاح التعليمي والتربوي السابقة، نحتاج إلى إعادة الوعي وإلى يقظة فعلية جديدة وتفكير صحيح، خاصة في هذه المرحلة الجديدة من عمر التعليم، نحتاج إلى إعادة تشكيل الخريطة التعليمية والعقل التربوي من جديد، خاصة في مسألة "صناعة التعليم"، حيث إن واقع الحال يفرض علينا البحث عن نموذج بديل للتعليم، نموذج لا يرتكز فقط على مسألة الحلول الخارجية والخبراء الأجانب، نموذج يعتمد على الذات مهما ترتب على ذلك من تضحيات، أن نعتمد على مدخراتنا الوطنية وتراكم الفكر التربوي الوطني. لدينا كثير من العقول المتعلمة والمتميزة، كثير من الكفاءات والخبرات التربوية التي من المفترض أن نعطيها الثقة ونجعلها بديلاً للخبراء الأجانب، أن نعمل على تكوين مجموعة مختصة منها في موضوع التنظير التربوي و"صناعة التعليم" وأن نصقل مهاراتها بكل الوسائل، بحيث تكون النواة الأولى التي تعمل على وضع الحل التعليمي الوطني القابل للمنافسة والتصدير والاستثمار، والذي لا يخاصم المناهج المتقدمة، بل ينافسها ولا يقاطع الاستيراد بل يعتبر الحل الوطني هو الأساس.