تقترب الذكرى الثالثة لغزو العراق، وأهم ما في لحظات تاريخية كهذه -وهي لحظات الذكرى- هو التمعن والتقييم ثم استخلاص الدروس الأساسية. وستشترك في هذا التمعن والتقييم، مجموعات كبيرة من جماهير الشعوب العربية والشعب الأميركي أيضا، وسيقوم الإعلام العربي والعالمي بدوره حيث سيتم نشر الإحصائيات المتعددة والآراء المتعارضة. ولكن ما يهم القارئ في المقام الأول هو النتيجة أو النتائج الرئيسية للغزو ذاته، وأن يتم كشف الحساب الموضوعي بشأنه.
منطقياً يقوم كشف الحساب على المقارنة بين الأهداف الأولية وما تم إحرازه عمليا، وبالنسبة للأهداف، فيجب أن نتذكر أن غزو العراق لم يكن حلقة منفصلة، بل كان إحدى الحلقات المهمة في سلسلة ما سمته الإدارة الأميركية "الحرب على الإرهاب"، بما فيها تنظيف العالم من أسلحة الدمار الشامل وأنظمة الحكم المارقة، فجاء الغزو بعد الإطاحة بنظام "طالبان" في أفغانستان وتعقب تنظيم "القاعدة" بقيادة أسامة بن لادن.
بالنسبة للأهداف الأولية، فقد تم القضاء بسهولة على "طالبان"، وكذلك الحال بالنسبة لنظام صدام حسين، ولا يزال الكثيرون منا يتذكرون دهشتهم عندما سقطت بغداد بسهولة عجيبة قبل ثلاث سنوات! وبطريقة أوضح بالنسبة لتحقيق الأهداف، نستطيع القول الآن إن هدف غزو العراق قد نجح، ولكن من الناحية العسكرية الآنية فقط، فخبراء الاستراتيجية لا يسمون الغزو انتصاراً إلا عندما يؤدي إلى ما يسمونه إنشاء وضع مستقر ومسالم. ولا نحتاج إلى تفصيلات كثيرة لكي نقنع القارئ بأننا حالياً في العراق أبعد ما نكون عن هذا الاستقرار والمسالمة، بل إن المقارنة بين حالة العراق قبل الغزو وحالته الآن تثبت بكل جلاء النتيجة العكسية تماماً، ولا يعني هذا بالطبع أن النظام الديكتاتوري السابق كان أفضل، ولكن يعني أن الإدارة الأميركية خلطت بشكل ساذج للغاية، بين التخلص من نظام شمولي وإقامة نظام ديمقراطي بديل، أي بين كسب معركة "سقوط بغداد" وكسب الحرب ككل، أي إقامة عراق جديد يكون نموذجاً للديمقراطية والأمان لكل شعوب المنطقة.
وفي الواقع قد تكون السهولة المتناهية التي تم بها الاستيلاء العسكري على بغداد وسقوط نظام صدام حسين، من أهم أسباب فشل الإدارة الأميركية في تحقيق أهدافها، إذ أدت تلك السهولة إلى تضليل وخداع قادة واشنطن فيما يتعلق بصعوبة التحديات الخاصة ببناء عراق ما بعد الغزو، بمعنى أن الإدارة الأميركية ذهبت دون مشروع مدني مفصل وتنفيذي لبناء العراق الجديد، بل اعتقد البعض أنه سيكون لدى الإدارة الوقت قبيل وأثناء دخول بغداد لتطوير مثل هذا المشروع المدني، وعلى أساس واقعي بناء على اتصال وحتى تواصل مع المجموعات العراقية المؤثرة في الداخل.
ولكن حدثت المفاجأة، وهي سهولة سقوط بغداد بهذه السرعة، وتبخّر الوقت المطلوب للاستعداد للعمل السياسي الذي هو أكثر تعقيداً من الغزو العسكري، بل اعتقد بعض العسكريين الأميركيين أنه -كما يقول المثل العربي الشهير- "كله من ده" أي بهذه السهولة. وهكذا وجدت واشنطن نفسها في العراق دون أية خطط ملائمة لتحديات مرحلة ما بعد الغزو. وكانت النتيجة أن أصبحت هذه المرحلة الدقيقة مرحلة "التجربة والخطأ": من تعيين لحاكم عسكري، ثم استبداله بحاكم مدني، وبعده سفير من أصل أفغاني يقوم بمهمة المندوب السامي ويمثل السلطة العليا في العراق رغم وجود حكومة ورئيس جمهورية!
هكذا نستطيع القول بكل موضوعية، إن الهدف الحقيقي للسياسة الأميركية في العراق -بناء عراق جديد- لم يبدأ بعد، ولا تزال الإدارة الأميركية في معركة غزو العراق، كأن هذه المعركة مستنقع لا تستطيع الخروج منه. وبدلاً من الديمقراطية والمواطنة في العراق، تم إدخال البلد في المشروع الطائفي التجزيئي، وبدلاً من الحد الأدنى من الاستقرار والأمان، أصبح العراق -كما اضطر دونالد رامسفيلد للاعتراف بذلك- في خضم حرب المساجد وعلى شفا حرب أهلية. وكل ذلك رغم التكاليف المادية والمعنوية الرهيبة التي يُدمي من أجلها موارد الكثيرين داخل أميركا نفسها، ثم إن أسامة بن لادن لا يزال طليقاً، بينما تنتشر خلايا "القاعدة".